توافر مقعد لكل تلميذ، هو ما يعرف فى مفاهيم العلوم التربوية باسم الإتاحة. ومضاد الإتاحة مفهوم التسرب. فى الأسبوع الماضى طرح د. الهلالى الشربينى وزير التربية والتعليم السابق فى نادى أعضاء هيئة التدريس بجامعة الأزهر كل ما هو ممكن عن الإتاحة فى مصر. ما قاله الدكتور الشربينى خطيرا لأنه كشف عن فشل الأساليب التى اتبعت منذ سبعينيات القرن الماضى حول الإتاحة. فعام 1977 وضع مجلس الوزراء خطة لخفض كثافة الفصول إلى 30 طالبا بحلول عام 2017. ومع بداية الألفية الثالثة وضعت خطة للعمل على تحقيق حلم 2020، وفيه حسب الخطة الارتقاء بالأبنية وفق معايير الجودة، وتوفير حاسب لكل 10 تلاميذ فى الروضة، ولكل 4 فى الابتدائى ولكل 2 فى الإعدادى. وتحقيق الاستيعاب لكل الأطفال فى سن التعليم دون أى تسرب.
عام 2016 عادت الكرة، فوضعت خطة للتنفيذ لمدة أربع سنوات، تهدف إلى خفض الكثافة فى الفصل إلى 45 طالبا، وكان 42% من الفصول المصرية وقتئذ بها أكثر من 47 طالبا. كما هدفت الخطة إلى القضاء على تعدد الفترات، وكانت تبلغ 18% من إجمالى المدارس. وكذلك سد احتياجات المناطق المحرومة.
الواقع اليوم هو بالتأكيد عكس ما تقرر 180 درجة. فكثافات الفصول فى تزايد مستمر ووصل بعضها إلى 120 طالبا، ومصطلح المناطق المحرومة من التعليم أصبح مألوفًا، واستيعاب الأطفال الكامل ومنع التسرب أصبح حلمًا. الخلاصة أنه تبين أننا نحتاج إلى 150 ألف فصل جديد فى تلك المدة (4 سنوات).
التخطيط الذى حظى بإجماع التربويين من التنفيذيين عام 2016 هدف إلى أمرين أولهما بناء 90 ألف فصل بتمويل حكومى خالص، وبمعدل 30 ألف فصل سنويا. و60 ألف فصل تبنى من خلال المشاركة بين القطاع الخاص والقطاع الحكومى، بمعدل 20 ألف مدرسة سنويًا.
فى الشق الحكومى جرى العمل لتوفير الأرض والموازنة الكفيلة بالتنسيق مع وزارات التخطيط والزراعة والتنمية المحلية والأوقاف والإسكان. وفى هذا الصدد تم رفع موازنة بناء المدارس من 2,6 مليار جنيه عام 15/2016 إلى 11,8 مليار جنيه عام 16/2017.
الأخطر فى الخطة السابقة هو الشق الثانى، أى بناء الـ 60 ألف فصل. وفيه تعتمد الحكومة أسلوب PPP أو (تربيل بى) هذا الأسلوب كما سبق ذكره، يهدف إلى تنفيذ الشق الخاص بالتعاون بين القطاعين الحكومى والخاص. ويقوم ذلك المشروع بتحقيق عدة منافع كما يلى:ــ
منافع للمستثمر، عبر إغداقه بفوائد مالية تفوق ضعفى العائد البنكى على أمواله على الأقل، وذلك بعد تشغيل المدرسة التى سيقوم ببنائها، على الأرض التى سيوفرها، وتوفر الدولة له تراخيص البناء، بل والبناء على نفقته إذ أراد.
منافع للحكومة، لأن الموازنة العامة لن تتحمل أى أعباء، كما أنها ستستفيد من وجود مدارس ذات تقنيات عالية، وهى مدارس تعتبر الحكمة أنها لن تبقى بعيدة عن إشرافها، وتلك المدارس ستعود لملكيتها بعد نهاية عقد الامتياز طويل الأجل.
منافع للمواطن لأنه سيستفيد من خلال إتاحة فرص تعليمية متميزة لأبناء الطبقة الوسطى بأسعار مناسبة، ومن ثم حل أزمة الإقبال المتزايد على التعليم خاصة من أبناء الطبقة المتوسطة، وتوفير أماكن للطبقة الدنيا فى مدارس الحكومة. ورفع مستوى المعلم الذى سينال راتبًا أكبر من رجل الأعمال أو المستثمر، وهو راتب أكبر بكثير من راتبه فى المدارس الحكومية التقليدية.
الغريب فى الأمر هو توقف المشروع بعد أن تفاعلت معه دوائر الحكومة بقدر عالٍ من التشجيع، إذ وافقت حكومة شريف إسماعيل على قيام الأبنية التعليمية بطرح مشروع PPP عبر مناقصات محدودة، وموافقة مجلس الوزراء على التعاقد بالاتفاق المباشر مع شركات القطاع الخاص لبناء المدارس، وتوفير الأرض المستهدفة لبناء فصول العام الأول والمقدرة بـ 30 ألف فصل. وكل ما سبق تم بالتوازى مع قيام الحكومة بتخصيص موازنة لتنفيذ عدد الفصول التى تقوم هى ببنائها بعيدًا عن القطاع الخاص فى نظام PPP. وبالفعل بنيت عدة آلاف من الفصول قبل أن يتوقف المشروع برمته، سواء فى شقه الحكومى أو التشاركى.
يبقى السؤال أليس من الواجب علينا اليوم إحياء هذا العمل؟ بل أليس من الواجب تعميمه وتكبيره بمعنى رفع عدد الفصول فيه إلى 100 ألف فصل تبنى على نفقة المستثمرين وعبر شراكة مع الحكومة، وضعفهم من قبل الحكومة وحدها، وذلك كله بغية الخلاص من التسرب الذى بات سمة هذه الأيام، والذى عادت معه نسبة الأمية فى الارتفاع من جديد. أليس من الأجدى وعوضًا عن إضاعة النفقات فى تابلت وخلافه، ثبت امتحان الثانوية الأخير والذى استعيض عنه بامتحان ورقى، البدء فى تنفيذ برنامج حقيقى للإتاحة. كلمات ربما تجد آذانا صاغية.