انتقلت مِن بيت إلى آخر انتقالا مؤقتا لكنه مؤلم. ساعدنى شخصان قدرت أن أحدهما فى مطلع الأربعينيات والثانى فى الثلاثينات من العمر. رجلان أسمران يرتديان الجلابيب، ممشوقان ومرنان إلى حد يثير الدهشة والإعجاب. يحمل كل واحد منهما منفردا ما يعجز عن حمله عددٌ مِن الأفراد غير المدربين. تابعتهما فى شغفٍ وفضول؛ طريقة رفع الأثاث وأسلوب تحقيق الاتزان، فوق الرأس وعلى الظهر، الانحناء والوقوف والجلوس، يقومان بالحركات اللازمة فى يُسر وكأنهما لا يحملان أوزانا هائلة. قلت إنهما فريدان، لا خدش أصاب قطعة مما رفعاها ولا اصطدمت منهما أخرى بحائط أو درجة سلم أو إطار باب. لا يعمل الرجلان فى شركة مِن شركات نقل المتاع، لا يملكان إلا السيارة متوسطة الحجم ويعتمدان على قوة البدن وحدها فى كسب قُوتِهما.
تعاملت منذ زمن طويل مع أشخاصٍ ــ لا أزال أراهم مِن حين إلى حين امتهنوا حرفة نقل كل شىء. أثاث، أخشاب، مواد بناء، حملوا فى عنفوانهم ما أمكن لهم حمله، لكن أغلبهم كفَ عن العمل فجأة؛ إذ أُصيب بأوجاع لا قبل له باحتمالها. انحنى الجسد وصار لا يقوى على السير مُنتصبا. لم تفلح المُسكنات ولا المُلطفات الموضعية، ووصف الأطباء التقاعُد جبرا لا اختيارا وإلا جاءت العواقب وخيمة. أرى أحدهم الآن إذا صعد السلم اضطر إلى وضع يده بأسفل ظهره وكأنما يسند العظام والأربطة التى تأن وتشكو، فإذا طالت المسافة ولاحت الدرجات بلا نهاية لجأ إلى الاتكاء على الحائط إلى أن يتضاءل الألم ويخبو.
***
فكرت فى ألم أصابنى ذات يوم لكثرة ما انحنيت على الأوراق والكتب، فجعلنى لا أطيق الجلوس لأكثر مِن دقائق. اضطررت حينها إلى الكفِ عن الكتابة لساعات متواصلة، وإلى العودة لممارسة الرياضة التى انقطعت عنها إذ لم يعد لها وقت كما كان. حين توقف أحد الرجلين ومال إلى الأمام مُستندا بكفيه على الركبتين ومُقطبا جبينه للحظات قصيرة، عاودنى ألمى، وحين استأنف مُهمَته مُبللا بحبات العرق الكبيرة، قلت إننى امتلكت ذات يوم رفاهية التَعَطُل والسُكون واقتطعت لنفسى فترة مِن الراحة وإن صحبها تأنيبُ الضمير، أما هو فلا يملك مِن أمره ــ أغلب الظن سوى الاستمرار، حتى إذا جاء يوم تَصَلَبَ ظهره ووهنت عضلات سواعده، كانت النهاية.
ثمة ألمٌ يظهر لفرط استهلاك الجسد وآخرٌ ينشأ عن طولِ نسيانه حتى الصدأ، وكل نوع مِنهما يختار ضحاياها. مِنا مَن اختبر الصمود لفترات طويلة أمام شاشة الحاسب الآلى، ينكفئ على مَكتبٍ أو مِنضدة ينجز عملا ذهنيا خالصا، لا يبرح مَقعده إلى أن يتعسَر عليه النهوض، ويتخشَب مِنه العنقُ وتتقلص الأكتافُ وترفض أى حركة فى إصرار. مِنا أيضا مَن هو على موعدٍ يومى مع مُعاناةٍ تبدو أكثرَ قسوة؛ ثمة عمالٌ يقضون ساعاتٍ لا تنتهى فى جَهدٍ بدنى شاق لا مَحَلَ فيه لشكوى، وإلا جىء بمَن هم أكثر قدرة على التحمُل، وثمة عاملاتٌ يتنقلن بين منزل وآخر، يرفعن ويدفعن ويمسحن إلى أن تئن منهن الأذرع والسيقان، ثم يستأنفن مهمتهن فى بيوتهن الخاصة أمام المواقد وأوانى الطهى وأحبال الغسيل. جميعهم يعدو فى غالب الأحوال وراء المواصلات العامة ويُحشر فى طوابير الجمعيات للفوز بما يسدُ الرمقَ، فيعرف نوعا آخر مِن الآلام.
***
أحيانا ما تكون المعاناة بعيدة عن مُقتضيات الضرورة. هناك آلام الكسلِ التى تحيط بأشخاصٍ لا هم مَدفوعون إلى طولِ جلوسٍ ولا هم مُجبَرون على عملٍ عنيف. مِنا مَن يستطيب الركودَ فيستقل سيارته وإن رغبَ فى قطعِ مسافةٍ لا تزيد على أمتارٍ مَعدودة، ويفضل قضاءَ ساعاتِ الفراغ تحديقا فى مَحطات التلفزيون دون أن يحرك ساكنا، ويحبذ استقبالَ وجباتِ الطعامِ الجاهزةِ عن إعدادِ أى طبقٍ بسيط. مِنا مَن يفقد مرونة جسده لصالح حالِ البلادة وتتلاشى قدرته على المبادرة بتقديم أى فعلٍ مُفيد.
ألم الجمود الطويل حرَك صُناع التكنولوجيا وسادتها. عرفت أخيرا أن بعض مقاعد السيارات الفاخرة أُضيفَت إليها خاصية مُتمَيزة. تنبعث مِن هذه المقاعد عند إعطاءها الأمر، ذبذباتٌ محسوبة تعمل على تدليك جسد الجالس عليها، فتهدهده وتمنحه شعورا بالراحة والثقة والهدوء، وتلطِف مِن مكوثه على المقعد مُحاصرا فى ساعات الازدحام. لا يحظى بهذا التدليل قطعا إلا القادرين على أداء ثمن السيارة، وهم تلقائيا وبطبيعة الحال مَن يملكون فسحة لا بأس بها مِن الرفاهة فى حيواتهم. برغم ما لها مِن بريق، لا أظن هذه التقنية تغنى عن براح مِن الزمن يتصرف فيه الجسد على سجيته، فيتمطى أو يعدو أو يقفز أو يسترخى فى فراغ دون أن تتيبس عضلاته فى وضع كئيب.
***
على كل حال ربما تشابهت الأوجاع فى طبيعتها ووطأتها وربما ولَدت جميعها الأرقَ والضيقَ لأصحابها، لكن ثمة مَن لا يبالون وثمة مَن لا يشكون، وثمة مَن تلقى أجسادهم الرعاية والعناية وإن لم يتأوهوا؛ كل بحسب مرتبته ودرجته.