نشر المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية مقالا للكاتب شادى محسن، تناول فيه مجموعة من الظواهر السياسية التى طرأت على المشهد السياسى فى إسرائيل أخيرا، كما أشار كاتب المقال إلى التكتيكات السياسية المتبناة من حكومة نتنياهو للسيطرة على تلك الظواهر.. نعرض من المقال ما يلى.
تنامت أخيرا مؤشرات حول مدى نجاح الحكومة الإسرائيلية (المتماسكة أيديولوجيا نسبيا) فى الاستمرار فى السلطة وعدم حدوث انشقاقات أو اللجوء لحل نفسها والذهاب إلى انتخابات مبكرة. إذ تزايدت حوادث دالة على تباعد فى وجهات النظر بين وزير الأمن العام ورئيس حكومته (على سبيل المثال)، ثم ظهرت مرة أخرى فى الأزمة بين وزير الأمن أيضا ووزير المالية بسبب التخصيص المالى لبنود الميزانية المقترحة لعامى 2023 ــ 2024. هل يمكن أن تشهد إسرائيل انتخابات عامة مبكرة قريبا؟
أولا: التطورات السياسية
هناك مجموعة من الظواهر السياسية التى طرأت على المشهد السياسى فى إسرائيل فى الآونة الأخيرة، يمكن توضيحها فيما يلى:
استطلاعات الرأى وتدهور موقف نتنياهو
تُواجه حكومة نتنياهو بأحزابها المحسوبة على التيارين القومى والدينى المتطرف أزمة سياسية بسبب تدهور موقفهم فى نتائج استطلاعات الرأى الدورية، ويبدو أن شن عملية عسكرية «الدرع والسهم» على قطاع غزة لم يحسن موقف نتنياهو إلا مؤقتا، ولم يُزده سوى بمقعدين اثنين فقط.
فى نهاية المطاف، تمكن معسكر المعارضة الذى يجمع أحزاب: معسكر الدولة (بينى جانتس)، هناك مستقبل (يائير لابيد)، ويسرائيل بيتينو، والعمل، وميريتس، بالإضافة إلى احتمال انضمام نفتالى بينيت مرة أخرى إلى الحياة السياسية من خلال حزب «اليمين الجديد» وهو ما يعنى أن المعارضة ستتمكن من تجميع 74 مقعدا، وفى حال عدم انضمام بينيت فستحصل المعارضة على 67 مقعدا.
يُلاحظ أن السبب الرئيسى فى تدهور موقف الائتلاف الحكومى الحالى هو مشروع الإصلاح القضائى الذى قدمته فى بداية العام الحالى، ولم يُعنَ المجتمع الإسرائيلى حتى الآن الاعتبارات الأمنية التى صدّرتها الحكومة للواجهة فى ظل سعيهم للحفاظ على الاعتبارات السياسية القيمية (الديموقراطية).
توتر مكتوم داخل الحكومة
تكررت حالات الخلاف بين بن جفير ونتنياهو فى أكثر من مشهد، كان أهمها هو امتناع بن جفير عن حضور المجلس الأمنى المصغر لدراسة فرص شن عملية عسكرية على قطاع غزة. كما لوّح بن جفير مهددا بالاستقالة من الحكومة فى حال لم يوافق نتنياهو على إصدار قرار عسكرى ضد الفصائل الفلسطينية فى غزة. وهو ما يرجح التقدير القائل بأن عملية «الدرع والسهم» كانت تبعا لحسابات سياسية مُقدمة على الاعتبارات الأمنية.
لا يعنى التوتر بين الطرفين رفض نتنياهو لمطالب بن جفير المشروعة أيديولوجيا لدى رئيس الحكومة وزعيم حزب الليكود، بل تعنى أن الطرفين لا يتوافقان على الأجندة الزمنية لتطبيق تلك المشروعات.
توتر مكتوم بين جناحى الحكومة «القومى» و«الدينى»
تتبدى بعض المؤشرات الطفيفة حول نشوب شبه خلاف أيديولوجى بين الجناح القومى المتطرف (بالتحديد عوتسماه يهوديت) المؤتلف فى الحكومة الحالية والجناح الدينى المتطرف (أى حزبا شاس ويهودات هاتوراة).
تنعكس هذه الظاهرة فى الخلاف القائم بين وزير المالية «سموتريتش» ووزير الأمن العام «بن جفير» حول عدم تخصيص مقدرات مالية كافية لوزارة النقب والجليل. ويرجع الأمر فى أحد أسبابه إلى أن الأحزاب الدينية المتشددة مثل شاس ويهودات هاتوراة، ترغب فى إعادة توطين المستوطنين فى النقب والجليل لصالح تياراتها الأرثوذكسية؛ كونهم يشخصون أزمتهم فى تراجع الفتوى الأرثوذكسية، وانتهاك الشريعة اليهودية فى عدد كبير من المستوطنات خاصة فى الضفة الغربية، لصالح التيار القومى المتطرف. وهو ما دفع الأحزاب الدينية إلى توجيه الاستيطان الأرثوذكسى إلى منطقتين جديدتين مثل النقب والجليل.
استمرار الاحتجاج
يستمر الإسرائيليون فى النزول إلى الشوارع احتجاجا على بوادر فشل الحوار الوطنى الذى يرعاه رئيس إسرائيل بين الحكومة والمعارضة، وعدم الوصول إلى توافق جَوهَرى فى الأمر حتى الآن، إذ يصر نتنياهو على عدم إلغاء المشروع والموافقة على مجرد تأجيل سن القانون.
ثانيا: المعالجة السياسية من قبل الحكومة
تبنى نتنياهو حزمة من التكتيكات السياسية لمعالجة الظواهر السابق ذكرها، يمكن توضيح هذه المعالجات على النحو التالى:
فض النزاع بين الأحزاب الدينية والأحزاب القومية المتطرفة
فضّل نتنياهو فض المنازعة بين بن جفير وسموتريتش فى مسألة تمويل وزارة النقب والجليل، بأن قرّر رئيس الحكومة منح بن جفير 250 مليون شيكل كمخصص مالى لوزارة الأمن العام ولم يمنحها لبن جفير كمخصص مالى لوزارة النقب والجليل. وهو ما يعنى أن الأزمة لم تكن تمويلية بقدر ما كانت أيديولوجية، وكان فض النزاع لصالح الأحزاب الدينية التى طالبت بالفعل بزيادة مخصصاتها المالية لتمويل مشروع الاستيطان الدينى (وليس القومى) فى المناطق الجديدة مثل النقب.
أمننة المشهد السياسى
يحرص نتنياهو على تخفيض حدة الأزمة السياسية فى الشارع الإسرائيلى بتأجيج مشهد أمنى فى وسط هذه الحالة، مما يثير الضمير الأمنى فى الذهنية الإسرائيلية. انعكس ذلك فى العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة فى غزة من 9 مايو إلى 11 مايو، انعكست على نتائج استطلاعات الرأى بالفعل وتفوق معسكر نتنياهو مرة أخرى، مستغلا ذلك فى سرعة تمرير مشروع الموازنة العامة لعدم الدخول فى سيناريو حدوث انشقاق بين أحزاب الائتلاف، قد تذهب بإسرائيل إلى انتخابات مبكرة.
ولكن بعد تدهور الموقف مرة أخرى، يحاول نتنياهو استعادة التكتيك بإثارة الموقف مع حزب الله فى جنوب لبنان، فى محاولة منه لتأجيج الضمير الأمنى لدى الإسرائيليين، وفى محاولة لبعث رسالة إلى المجتمع الإسرائيلى مفادها أن عدم استقرار إسرائيل سياسيا سيعرضها لخطر اندلاع حرب متعددة الجبهات ضدها مما يهدد وجودها.
احتكار قرار الحرب
قدمت الولايات المتحدة عبر وزير الدفاع الأمريكى، وقائد القيادة المركزية «سنتكوم» للجيش الأمريكى، لوزير الدفاع الإسرائيلى ورئيس الأركان العامة للجيش الإسرائيلى، مبادرة تنسيق مشترك (لتنسيق الخطط وسيناريوهات الحرب مع إيران) ورغم الموافقة المبدئية من قبل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية إلا أن رئيس الحكومة «نتنياهو» ما زال يماطل بالموافقة النهائية على المقترح الأمريكى؛ بداعى: «أنها قد تقيد حرية الحركة الإسرائيلية ضد إيران». رغم نفى الولايات المتحدة للادعاء الإسرائيلى، إلا أن الحكومة لم ترد بالموافقة حتى الآن.
ويعود السبب إلى أن نتنياهو يسعى لاحتكار قرار الحرب بكل صورها فى الإقليم خاصة ضد إيران ووكلائها، حتى ولو كانت تحت اعتبارات سياسية بحتة، وليس أمنية فقط. فى محاولة منه لهندسة المزاج الإسرائيلى وجره نحو الضمير الأمنى كما سبق ذكره فى النقاط السابقة.
ثالثا: تقييم التكتيكات الإسرائيلية
يدور السؤال الآن: هل يمكن أن ينجح نتنياهو فى معالجته السياسية للظواهر السابق ذكرها؟، يمكن تقييم هذه السياسات على النحو التالى:
استمرار الضغط الأمريكى
يبدو أن الولايات المتحدة تدرك هشاشة معادلة الأمن القومى الإسرائيلية؛ لا سيما بعد موجة التطبيع بين المحور السنى والمحور الشيعى. وقد يستمر الضغط الأمريكى على إسرائيل لضمان حفظ المعادلة الأمنية فى المنطقة وعدم الانجرار إلى حرب قد تنشب لدواعٍ سياسية فقط.
يمكن أن تجد إسرائيل نفسها فى مأزق استراتيجى ضخم وهو التنازل عن حرية العمل العسكرى فى سوريا بسبب الرضوخ للطلبات الأمريكية، لأنه فى حالة استمرار الرفض الإسرائيلى فستستمر واشنطن فى تقييد إسرائيل بنفسها.
يمكن استخلاص أن الولايات المتحدة تسحب من إسرائيل حق التوظيف السياسى لأمنها القومى فى معادلة الأمن الإقليمى، مما يُفسد على نتنياهو هندسة المزاج الإسرائيلى بإثارة الضمير الأمنى.
الضغوط الاقتصادية
واجهت إسرائيل أزمة التصنيف الائتمانى غير الإيجابى لاقتصادها من قبل وكالات التصنيف العالمية، مما أثر على استقرار السوق وتدفق الاستثمارات إلى إسرائيل.
من الملاحظ أن المخصصات المالية الممنوحة لبنود البنية التحتية، والنقل والمواصلات، وحتى الابتكار التكنولوجى بدت ضعيفة مقارنة بالميزانيات السابقة؛ مما ينذر بتباطؤ الاستثمارات الحكومية فى هذه المجالات، وقد يعرقل الاقتصاد الإسرائيلى نوعا ما فى المستقبل المنظور. تجدر الإشارة إلى أن ضعف المخصصات للقطاعات السابق ذكرها يرجع إلى زيادة المخصصات للنشاطات الدينية فى إسرائيل.
موازنة بين القومى والدينى فى الحكومة الإسرائيلية
نجح نتنياهو فى إقناع بن جفير بالاكتفاء بـ 250 مليون شيكل لوزارة الأمن القومى، وغض النظر عن وزارة النقب والجليل مؤقتا. إذ يمكن لـ«بن جفير» توجيه هذه الزيادة إلى تمويل مشروع الحرس الوطنى. فى المقابل سيشرع نتنياهو فى زيادة تمويل النشاطات الدينية، وبهذا ينجح رئيس الحكومة فى عقد اتزان أيديولوجى وتمويلى بين الجناح الدينى والجناح القومى.
تجدر الإشارة إلى الحكومة الإسرائيلية وافقت على تخصيص 8% زيادة فى التمويل المقدم لوزارة الدفاع الإسرائيلية.
ختاما، يمكن القول أن هناك تقييما إيجابيا نوعا ما للتكتيكات المستخدمة من قبل حكومة نتنياهو فى معالجة الظواهر السياسية السلبية السابق ذكرها، ولكنها لن تقوى على الاستمرار كثيرا فى سد الثغرات التى قد تتسع خاصة بين الجناح القومى المتطرف والجناح الدينى المتشدد فى الائتلاف الحالى.
النص الأصلي