تم الإعلان أمس عن الغاء شركة باتا، ودمجها مع شركة المحاريث والهندسة، وتمثل باتا لجيلى والاجيال التى سبقتنا الكثير من المعانى، فعندما جاءت حكومة يوليو استعملت العلامة التجارية الشهيرة وافتتحت فروعا كثيرة للشركة غطت جميع مناطق مصر، فى وقت كان فيه هاجس مكافحة الحفاء أحد أبرز هواجس تلك الفترة.
ونعلم جميعا ان كثيرا من المشروعات التى ظهرت قبل 1952 كانت تسعى لمكافحة الحفاء ولكن حين استقرت دعائم يوليو، تولت حكوماتها المتعاقبة اجراء برامج للاصلاح الاجتماعى بحيث أصبحت (باتا) وهى تشيكية الأصل ــ كما علمت وليست إيطالية كما هو شائع ــ ماركة شعبية، والشعبى ليس عنوانا للرداءة لكنه هو الشىء المعمم فى كل الطبقات.
فى الغالب كانت (باتا) مثل شقيقاتها من المحلات التى تم تأميمها مثل الصالون الاخضر وصيدناوى أو بنزايون وشركة بيع المصنوعات التى كانت معروفة باسم المتاجر الشعبية، وظلت تلك المحلات هى وحدها المتاحة أمام الجميع.
كانت خيارات الشراء والاستهلاك محدودة وربما منعدمة فى ظل معايير التوحيد القياسى التى عممتها الناصرية، لكن ثمة بهجة حقيقية تقف تنتظر خلف فاترينات وأبواب تلك المحلات
فى المواسم يتقافز الأولاد حولها بمرح لا ينقطع لا نفرق بين الأعياد وبدايات العام الدراسى، كانت الأنوف تتشرب رائحة الجلد كأنها عطور من ماركات باريسية شهيرة، نأخذ الأحذية فى أحضاننا وننام نوما بأجنحة تحملنا إلى الكثير من الأحلام.
فى تلك السنوات التى تقع بين السبعينيات والثمانينيات شاع مصطلح شعبى هو (الاستمارة) التى يحصل عليها العاملون فى الحكومة، وكان أبى مثل كل الآباء يحصل على استمارة نذهب بها إلى بيع المصنوعات، نشترى ما يلزمنا من ملابس فى الصيف أو الشتاء ثم نذهب وننهى رحلتنا أمام فاترينة (باتا) التى لم نعرف غيرها أبدا.
حين بلغنا الثمانينيات وعند عمر المراهقة ظهرت ماركة (الكوتشيى) التى بقيت فى فضاء بعيد جلبته الإعلانات التى أشرقت فى التلفزيون الملون وعلى الرغم من ذلك بقى حذاء (باتا) الرياضى الابيض فى مكانته، لم يبرحها أبدا ولم تكن رياح الخصخصة قد أنجزت مهمتها فى العصف به هو وغيره من الماركات التى ارتبطت بالاشتراكية وتحالف قوى الشعب العامل.
كنا نشترى حذاء (باتا) بالحجز، فقد كان الأمتن والاصلح للعب الكرة فى الشارع على الأسفلت أو فى ملاعب الساحات الشعبية ومراكز الشباب، وقد عرفنا منه نوعين، أحدهما كان يباع بـ 2 جنيه والثانى بـ 8 جنيهات ويظن الواحد منا أنه إذا اشترى الثانى يستطيع بـ8 جنيهات فقط أن يلعب أفضل من بابلو روسى ومارادونا قبل أن ندخل (باتا) نقف فى طوابير لنحجز ونحتفظ بالإيصال.
كان لدينا فى حلوان حيث ولدت فرعان لـ«باتا» وكنت أحب الفرع الصغير المجاور لمقهى البرازيل، بل كنت أمر عليه يوميا قرب ميدان المحطة لأسأل عن الحذاء منتظرا وصوله مع رفاقى.
وفى أحيان اخرى كنا ننام على نجيلة الحديقة المجاورة املا فى وصول سيارة باتا التى اختفت من حياة المصريين اليومية منذ التسعينيات فى ظل تنامى الاحاديث عن الخصخصة.
خلال السنوات الأخيرة تغبر زجاج غالبية الفروع وتراجع حضورها لسبب غير معلوم وعانت من هجر العملاء الذين وصلتهم ماركات اخرى ولم أعد أشاهد سوى فرع واحد يقف خجولا على ناصية شارع قصر العينى اعتبرته علامة على زمن لم يعد له وجود.
لم يعرف أبنائى بأسطورة (باتا) وشقيقاتها (عمر أفندى وبنزايون والمتاجر الشعبية ومحلات بيع المصنوعات) سوى من مسلسل (ذات) حين بدأت رحلة تجهيزها للزواج، بينما كنت وأنا فى عمر ابنى (13 سنة) أقضى الصيف كله مع (باتا) رافعا شعار ضحك ولعب وجد وحب.
أدفع 6 جنيهات فى الصيف لأشترك فى نادى شركة مصر حلوان للغزل والنسيج، وأحصل مقابلها على حذاء رياضى من (باتا) وطاقمين للعب طوال الصيف، وحين التحقت بالجامعة أواخر الثمانينيات حصلت باستمارة تفوق على حذاء (كوتشى) كنت أرتديه فى المناسبات.
لم أعرف اننى كنت اكتب كلمة فى سطر النهاية لاسطورة باتا التى كنا نحفظ شعارها ونسخر منه، لم نكن نعرف بالفعل ان راحة الجسد تبدأ من القدمين، نلبس اليوم ماركات كثيرة (كلاركس) و(اديداس) وتبقى اقدامنا تحن إلى زمن (باتا).