وقت للحقيقة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:36 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وقت للحقيقة

نشر فى : السبت 7 يوليه 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 7 يوليه 2012 - 8:00 ص

قتل رجل هندى كلبين ضالين ومثل بجثتيهما ثم لم يلبث أن أصيب بآلام جسدية مبرحة، وبشلل فى يديه وقدميه، وبقى لسنوات يُعَالَجُ دون تَحَسُّن، وقد وقع فى روعه أن جريمته هى السبب، وطلب منه عراف القرية أن يُكَفِّرَ عن ذنبه بعقد زواجه على إحدى إناث الكلاب فى المعبد، وكان أن فعل.

 

●●●

 

قد يدفع الخوف والتوجس ببعض البشر إلى التكفير عن أخطائهم بأية صورة، بينما يدفع الندم والعجز بالبعض الآخر إلى التمادى فى عملية التكفير ومواصلتها دون نهاية ودون أن تؤدى إلى نتيجة؛ يجلد الشيعة أنفسهم حتى اليوم كلما حلت ذكرى كربلاء، يسيلون دماءهم حزنا على استشهاد الحسين أمام جيش يزيد، يعلنون بشق الصدور وشج الرءوس، رغبتهم فى التكفير عن ذنب التخلى عنه، وتركه فى مواجهة جحافل المتربصين، على الجانب الآخر يقيم اليهود طقوس الحداد كلما زاروا حائط المبكى، ينوحون ويذرفون الدموع تكفيرا عن فشلهم فى حماية هيكل سليمان، الذى دمره الرومان منذ قرون.

 

 لا ترتبط عملية التكفير دائما بوجود ذنب أو جرم محدد الملامح يرغب العقل الجمعى فى التحرر منه، بل قد تصبح عملية تلقائية متكررة ومستقلة بذاتها، كثير من الناس يؤدون طقوس الحج الإسلامية، طامحين إلى التخلص من ذنوبهم جميعها دون تخصيص، تلك التى يعلمون أنهم ارتكبوها، وتلك التى يتصورون أنهم ربما وقعوا فيها سهوا. ربما يكون التطهر من الشرور والآثام مطلبا إنسانيا صعبا، وموغلا فى القدم، لكنه لا يخلو من بريق. ‏ 

 

●●●

 

فى بعض الأحوال يمكن للاعتذار وحده أن يصبح تكفيرا إيجابيا عما سلف، كفيلا بتصحيح كثير من المفاهيم، وبتغيير بعض المسارات، حتى مع مُضيّ زمن طويل. منذ بضع سنوات، قرر يوحنا بولس الثانى بابا الفاتيكان، الاعتراف بأخطاء وقعت فيها الكنيسة على مدار قرون، وقد أعلن الندم والاعتذار عن محاكمة جاليليو فى القرن السابع عشر بتهمة الهرطقة، وعن التورط فى تجارة الرقيق بأفريقيا، وعن امتهان حقوق النساء على يد محاكم التفتيش، وكذلك عن الكوارث الإنسانية التى صاحبت الحروب الصليبية وغيرها من المآسى. ربما لم تكن الكنيسة مضطرة لإعلان الندم، ولا كان القائمون عليها واقعين تحت ضغوط ترغمهم على الاعتذار، لكن من الناس من يتملكهم هاجس التحرر من كل شىء عدا الحقيقة، ومن يملكون دافعا أخلاقيا لتحمل المسئولية عن أخطاء لم يكونوا ضالعين فيها بأشخاصهم، ربما لن يعوض الاعتذار من سقطوا تحت وطأة الضربات، لكنه بمثابة حجر يضرب المياه الآسنة، ويفضح المترفعين عن الرجوع إلى ما يدركون فعليا أنه حق.

 

لا تقتصر فكرة التكفير عن الخطأ والتطهر منه على أتباع الديانات والعقائد، ولا تقف عند الأسف والاعتذار، فلا تزال ألمانيا ــ بغض النظر عن انتماءات مواطنيها ودياناتهم ــ تُكَفِّرُ عن جريمة الهولوكوست؛ عن المحارق، وأفران الغاز، ومعسكرات الإبادة التى بناها هتلر، وهى تفعل هذا بوسائل شتى ليس من بينها الصلوات ولا صناعة البكائيات وحفلات الدماء، فهناك التعويضات والقوانين وسيل المميزات الذى لا ينتهى، وقد عمدت إيطاليا هى الأخرى إلى التكفير عما ارتكبته من جرائم فى ليبيا؛ فاعتذرت رسميا فى أوائل التسعينيات عن سنوات الاحتلال، وتنازلت عن مستحقاتها المالية، ووقعت اتفاقا بنزع الألغام التى زرعتها، وبتعويض المتضررين وإقامة المستشفيات ومراكز التأهيل، كما أنها أقرت بانتصار الشعب الليبى فى معركته ضد الاستعمار، أى ضدها.

 

●●●

 

ربما يتطلب الاعتراف بالخطأ شيئا من الشجاعة والثقة، وفى المقدمة منهما إحساس حقيقى بالندم، بأن ثمة إيذاء قد وقع على آخرين يستوجب المراجعة، البعض لا يجد غضاضة فى الإصرار على الخطأ، والبعض لا يجد دافعا للاعتراف بأى خطأ، لدى أولئك وهؤلاء يتلاشى تدريجيا ذاك الشعور بالذنب الذى يحرك البشر، من أين يأتى وإلى أين يذهب وكيف يختفى تماما من الخارطة، لا أحد يدرى على وجه التحديد، لكنه أمر ميَّز غالبية الطغاة على مر العصور.

 

●●●

 

جرائم كثيرة ارتُكِبَت فى حقنا.. جرائم تَمثُلُ أمام التاريخ وحيدة رغم وجود فاعليها، لدينا آلاف الغرقى ومئات المتفحمين، لدينا غرف التعذيب والمُعَذِّبون، وأجساد المُعَذَّبين، وعشرات ممن فقدوا عيونهم أو ما يزيد، ومئات الآلاف من المصابين بعلل الفقر المدقع وعدد لا يحصى من النائمين فى العراء، لكن أحد لا يبدى أسفه، لا أحد يعتذر عما ارتُكِبَ، حتى ليبدو أن سنوات القمع الممتدة قد جردتنا من كل أثر لشجاعة أو لضمير، وجعلتنا نتعامل مع غيابهما بغير أن نلاحظه.

 

 حين لا يرغب الجناة والمخطئون فى الاعتراف بأوزارهم وتعويض ضحاياهم، وحين يقف القانون عاجزا عن المحاسبة واسترجاع الحقوق، يتقدم الناس لتحقيق العدالة كيفما يتمكنون، من الجرائم ما لا يختفى أبدا وما لا يمكن أن تمتصه السنوات والعقود، دائما ما يأتى وقت لإعلان الحقيقة.. طوعا أو إجبارا 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات