لم يشارك الرجل فى المظاهرات التى اجتاحت ميدان تقسيم باسطنبول، لكنه اختار أن يقف فى المكان نفسه، موليا وجهه شطر صورة أتاتورك، دون أن ينطق بكلمة واحدة لثمانى ساعات متواصلة. لفت الرجل الواقف فى تقسيم أنظار العالم، وألهم رفاقه، وغدا أيقونة جديدة للمحتجين فى مختلف البقاع؛ هكذا تحدثت عنه وكالات الأنباء.
انضم إلى الرجل ما يقترب من ثلاثمائة متظاهر آخرين فور إدراكهم ما يفعل، فوقفوا حوله صامتين أيضا، ورغم هذا الصمت العميق، ورغم التزامهم عدم الحركة، سارعت قوات الشرطة التركية بفض تجمعهم، وإلقاء القبض على مَن تمسك منهم بالبقاء. أثار الواقفون الصامتون، بعددهم الضئيل نسبيا، خوف جيوش السلطة المسلحة الصاخبة.
●●●
قبل هذا بسنوات، أثار أعضاء الحركة الصينية «فالون جونج» رعب السلطة أيضا. حركة مسالمة تماما، تنبذ العنف وتقوم على ممارسة نوع من الرياضات الروحية، المعتمدة على التأمل وتدريبات التنفس والاسترخاء، ولا تسعى ــ وهو الأهم ــ إلى دخول حلبة السياسة. تنامى عدد أعضائها باضطراد، حتى أثار قلق السلطة فلاحقتهم بشتى الطرق. قرر أعضاء فالون جونج ذات يوم الوقوف أمام بعض مؤسسات الدولة احتجاجا على ملاحقتهم؛ وفى هذا اليوم وحده اعتقلت قوات الأمن الصينية ما يقرب من ألفى شخص، ونكلت بهم أسوأ تنكيل؛ لم يشفع لهم؛ التزام الصمت والهدوء، وعدم الضلوع فى أى عمل عنيف، ورفض الاشتباك أو حتى محاولة صد الاعتداء.
خافت السلطة بالمثل؛ هؤلاء الأشخاص الذين ارتدوا السواد، وانتظموا فى سلاسل ممتدة بطول ساحل البحر فى الاسكندرية، وبامتداد ضفاف النيل فى القاهرة، متباعدين أحدهم عن الآخر، محتجين بصمتهم التام على مقتل شاب فى مقتبل العمر، بيد قوات الشرطة المصرية.
●●●
يبدو أن الصمت يخيف؛ الشخص الذى يصمت عن الكلام يُحتَمَل إنه يفكر، والأفكار تزعج الحكام. الصمت يخيف لأن الصامت يؤكد قدرته على التحكم والسيطرة بأبسط الوسائل وأقلها تعقيدا، ولأن صمته يحمل إمارات الغموض؛ قد يشى بتدبير خفيّ، أو ربما يشير إلى غضب مكبوت لم يتجسد بعد. كلما طال الصمت، تنامى قلق السلطة، وكلما تأجل الانفجار، كلما ازداد الأثر اللاحق عليه حجما وسطوعا. للصمت كذلك رهبة وجلال.
بعض الناس يُعرَفُ صموتهم عند الغضب بأنه أعتى من أى خطاب صوتى، يتحاشاهم الآخرون وهم على هذا الحال، ويتجنبون استثارتهم ما استطاعوا، بل وقد يبذلون جهدا وافرا لإزالة أسباب الغضب. كثيرا ما عمد باباوات الكنيسة المصرية إلى الاحتجاج صمتا واعتكافا، وكان لصمتهم دوما أبلغ الأثر على الآخرين.
ربما تهدد قوة الصمت الناعمة فى بعض الأحيان بأكثر مما تفعل القنابل والرصاصات، وقد هدد هؤلاء الواقفون صموتا سواء فى تركيا، أو مصر، أو الصين، حكوماتهم وأجهزتها الأمنية، وأجبروها على إعادة النظر والتقييم، وأرعبوها بما يكفى لأن تلجأ إلى العنف الضارى، فضربت واعتقلت وقتلت.. بعض الصامتين.
●●●
إذا كان الصمت ناجحا إلى حد بعيد كفعل احتجاجى، فربما يكون مؤثرا أيضا فى العمل السياسى التقليدى. سمعنا كلاما لا أول له ولا آخر، على مدار عامين أو ما يزيد، كلام يتناول كل شيء، ويتطرق إلى مواضيع شتى بعضها قد لم يخطر ببال، وكأنه كان مختزنا منذ قرون. أثبت عدد كبير من المتكلمين أنهم لا يعرفون ولا يدركون، وأنهم يحاولون بكلامهم مجاراة الأفعال المتعاقبة على الأرض، العصية على التكهن والاحتراز. تلقينا بياناتٍ متتالية يصعب إحصاؤها، لكنها لا تضيف إلى الواقع الشيء الجديد؛ سمعنا ضيوفا لا يبرحون الشاشات إلا إلى شاشات أخرى تتلقفهم ظمأى مستبشرة، لكنهم يجتروا من خلالها أحاديث جوفاء لا تُسمِن ولا تُغنى من جوع؛ تابعنا خطابات كثيرة لرئيس، لم يفعل سوى صف الكلمات المتنافرة جنبا إلى جنب دون أن تلحقها أية خطوات منطقية تضعنا على الطريق. رأينا على الجانب الآخر، قلة ممن يتحركون دون سيل من الكلام، ويوجزون فينجزون. حققت حركة «تمرد» على سبيل المثال نجاحا هائلا، واجتذبت الناس بأقل قدر من الثرثرة، وأحدثت أثرا واسعا وحقيقيا على الأرض، يحسب لها بعد فشل الساسة المتكلمين.
نعرف أن المرء حين يفيض فى كلامه ويستفيض، فإنه يُعلِن ضمنا أنه لا يحوز متسعا من الوقت للتأمل والتفكير، وغالبا ما يخرج الحديث فضفاضا مهلهلا، معلقا فى الهواء بغير جذور، وسرعان ما يتبدل ويناقض محتواه السابق. يُثبِتُ الأقلُ كلاما أنه الأكثرَ حنكة؛ الأكثر تلقيا للمعلومات، والأكثر تحليلا واستيعابا، والأدق رأيا واستنتاجا. فقرة نظرية لطيفة، لا يغفل عن محتواها أحد، لكنا نستسلم أيضا لصعوبة التطبيق، فى ظل ظرف يدفعنا دفعا كى نصبح أطرافا متضامنة فى مكلمة لا تنتهى، فيحرمنا فرصة التقاط الأنفاس.
●●●
لا يزال الرجل الواقف مصدر إلهام للأتراك الذين لم تفتر همتهم بعد، ولازالت «فالون جونج» تكتسب أعضاء جددا رغم البطش، كما وزعت «تمرد» أملا جديدا على ملايين العابسين، وأضاءت وجوههم مرة ثانية. يراودنى كما يراود من الأصدقاء الكثيرين؛ شوقٌ إلى إيقاف حركة الأحبال الصوتية الزاعقة، والإنصات إلى الداخل ولو للحظات قليلة، علها تنير فى أذهاننا أفكارا جديدة معبرة، وتجلب أشياء فقدناها على الطريق.