الساعات الرخوة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:25 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الساعات الرخوة

نشر فى : السبت 6 أغسطس 2011 - 11:10 ص | آخر تحديث : السبت 6 أغسطس 2011 - 11:10 ص
يقول سلفادور دالى فى تفسير مكونات إحدى لوحاته الفنية: «إنها ليست أكثر من قطع الجبن الطرى الوحيد الناقد للوقت والحيز». عبارة لا يضاهيها غرابة إلا اللوحة ذاتها والتى يراها البعض عرضاً من أعراض جنون دالى الذى اشتهر به، لكن دالى يقول أيضاً: «الفارق الوحيد بينى وبين المجنون هو أننى لست مجنوناً».

اللوحة هى «الساعات الرخوة» ولها عنوان ثان هو «إلحاح الذاكرة»، أما سلفادور دالى، فهو ذاك التشكيلى العبقرى الذى ولد فى أسبانيا عام 1904 وصار علامة من علامات التاريخ الفنى للسريالية، وربما يكون أحد أبرع الرسامين على مر العصور، فى لوحاته تقنية ودقة فريدة، وفى ألوانه وخطوطه شيء مختلف ينقل الرائى إلى عالم جديد شديد الجرأة، أما أفكاره ومحتويات لوحاته فتمثل بالنسبة لأغلب الناس محض جنون وأحياناً ما توصم كما يوصم هو أيضاً بافتقاد أصول اللياقة والتهذيب. رسم دالى «الساعات الرخوة» عام 1931، أى منذ ما يقرب من 70 عاماً، وهى لوحة صغيرة المساحة لا تتجاوز 24×33سم، تحوى مشهدا لصحراء وشجرة لا أوراق لها وساعات تظهر فى إطاراتها اللينة ملقاة هنا وهناك.

●●●

فى درج مكتبى نسخة مصغرة على ورق مقوى للوحة الساعات الرخوة، أحضرتها أثناء زيارة لمعرض متنقل يجمع بعض لوحات دالى، واحتفظت بها ثم نسيتها مع مرور الوقت. منذ أيام قليلة أخذت أرتب المكتب فعثرت على النسخة سليمة معافاة لم يصبها أى تغير بفعل السنوات التى مرت عليها.

حين أمسكتها بين يدى وأخذت أتطلع إليها، كان هناك عامل جذب غريب يغرينى بمواصلة النظر: ساعات دالى الثلاث المرتمية فى سكون الصحراء الشاسعة والمتموجة كما قطعة من العجين الطرى الذى لم يتم خبزه بعد، كانت تشكل مشهداً غاية فى الطزاجة كأنما استلهمه البارحة، لم أشعر بالصدمة التى انتابتنى حين طالعت اللوحة للمرة الأولى.

●●●

هذه المرة جسدت الصحراء أمامى ذاك الثبات الهائل الذى صرنا محبوسين داخله، أما الساعات التى تكاد تتساقط منها الدقائق لزجة كما قطرات الزيت فى نزيف بطىء، تلك الساعات المتدلية الساكنة، فقد كثفت داخلى الإحساس بالوقت الذى صار يمر متثاقلا وكسولاً. ذكرتنى بأن ثمة أشياء قد تجمدت على الحال ذاته، رغم كل محاولات الدفع والضغط وكل مولدات الحركة التى نستخدمها.

ساعات دالى المنبعجة اللينة التى تُفقِدُ الأشياء حيويتها وتمتص منها الروح، تشبه تلك الساعات التى تمر فى أروقتنا الرسمية، تشبه الحركة المتراخية البعيدة عن الميدان التى تأخذ من الثورة روحها الحماسية وتطفئها.
صارت ساعاتنا رخوة .. القرارت التى تتساقط علينا من حين لآخر رخوة.. الحكومة التى تشكلت عقب الثورة ثم تغيرت لاتزال رخوة يتأخر إيقاعها كثيرا عما يحيط بها من أحداث، الثورة نفسها صارت رخوة تتسول مطالبها بليونة وتقبل المماطلة.

أدخلت اللوحة المصغرة درج مكتبى علها لا تتحول إلى أيقونة للأيام القادمة، فما يلزمنا الآن هو بناء ثورة صلبة إيقاعها مضبوط لا تتدلى كما ساعات دالى.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات