نشر موقع رصيف 22 مقالا للكاتبة إيليج نون، تحدثت فيه عن تأثير العزلة على قدراتنا العقلية، وما هى أفضل الحلول لتعزيز محصولنا المعرفى والعقلى... نعرض منه ما يلى:إن «ضباب الدماغ» (brain fog) ليس حالة طبية، بل هو مصطلح يُستخدم لأعراض معينة يمكن أن تؤثر على قدرة المرء على التفكير، بحيث أنه قد يشعر بالارتباك أو عدم التنظيم أو يجد صعوبة فى التركيز».
كشف جوش كوهين، وهو صاحب كتاب How to Live. What to Do أن معظم الناس باتوا يشعرون بالوهن من خسارة الأمور الروتينية والنسيان.
وبحسب كوهين، فإن ظاهرة ضباب الدماغ هى تجربة لواحدة من أكثر جوانب اللاوعى إثارة للقلق، مستندا إلى نظرية فرويد للدوافع، والتى تقوم على فكرة أنه لدينا قوة واحدة داخلنا تدفعنا نحو الحياة، وأخرى تجرنا نحو الموت.
وعليه، شرح كوهين أن دافع الحياة يدفعنا إلى خلق علاقات مع الآخرين والسعى إلى «توسيع الحياة».
على النقيض من ذلك، فإن دافع الموت يحث على «نوع من الانكماش. إنه تحرك بعيد عن الحياة».
وأشار جوش إلى أنه «مع ضباب الدماغ نشهد ضمورا فى الحيوية، يجد الناس أنفسهم أكثر خمولا، وأن وزنهم البدنى والنفسى أثقل بطريقة ما، ومن الصعب تحمله».
فبالرغم من قيام العديد من الدول فى تخفيف الإجراءات المتبعة وعودة اللقاءات المباشرة إلى حد ما، غير أن كوهين اعتبر أن الإغلاق العام كان، بالنسبة للكثيرين، «تقلصا للحياة وتقلصا موازيا تقريبا للقدرة العقلية».
واللافت أن هذه الحالة الذهنية، التى يجسدها مثلا الدخول إلى غرفة معينة فى المنزل ثم نسيان سبب وجودنا فيها، قد تبدو أمورا تفصيلية وغير مهمة، لكن العلماء يعتقدون أنها من الإشارات المثيرة للاهتمام والتى يجب التوقف عندها، بغية تعزيز الفهم العلمى للدماغ وعمله وحتى تغيره وفق الظروف.
فى هذا الصدد، اعتبر جون سيمونز، أستاذ علم الأعصاب الإدراكى فى جامعة كامبريدج، أن مظاهر النسيان هذه هى بالتأكيد شىء علمى، مشددا لصحيفة الغارديان البريطانية، على أنه من المفيد أن نفهم أن هذا الشعور ليس غريبا، بل هو «رد فعل طبيعى تماما على هذه التجربة المؤلمة التى مررنا بها بشكل جماعى».
واللافت أن ما نطلق عليه «ضباب الدماغ»، فضلت أستاذة علم الأعصاب الإدراكى فى جامعة وستمنستر، كاثرين لوفداى، تسميته «ضعف الوظيفة المعرفية»، والذى، بحسب رأيها، يشمل كل شىء «بدءا من ذاكرتنا وانتباهنا وقدرتنا على حل المشكلات إلى قدرتنا على الإبداع. فى الأساس، إنه التفكير».
وكشفت لوفداى أنها سمعت أخيرا الكثير من الشكاوى المتعلقة بالنسيان: «نظرا لكونى عالمة ذاكرة، يخبرنى الكثير من الناس أن ذاكرتهم ضعيفة حقا، ويبلغون عن هذا الضباب المعرفى».
وأوضحت كاثرين أن هناك دراستين عن هذه الظاهرة، واحدة من إيطاليا، حيث أبلغ المشتركون بشكل شخصى عن هذه الأنواع من المشكلات مع الانتباه، مع تصور الوقت والتنظيم، ودراسة أخرى من اسكتلندا قامت بقياس الوظيفة الإدراكية للمشتركين عبر مجموعة من المهام فى أوقات معينة خلال الإغلاق الأول وحتى الصيف.
وقد أظهرت النتائج أن أداء الأشخاص كان سيئا فى بداية الإغلاق، لكنه تحسن مع تخفيف القيود.
عوامل مختلفة
نظرا للعزلة والإغلاق الذى كان علينا تحمله حتى وقت قريب جدا، فإن الشكاوى المتعلقة بالنسيان، غير مستغربة بالنسبة لكل من جون سيمونز وكاثرين لوفداين، لا بل توفر لهما الفرصة لاختبار نظرياتهما حول سبب حدوث مثل هذا الضباب الدماغى، مع العلم بأنه لا يوجد تفسير واحد لهذه الظاهرة، كما أكد سيمونز: «لا بد أن يكون هناك الكثير من العوامل المختلفة التى تتجمع وتتفاعل مع بعضها البعض لتسبب ضعف الذاكرة وعجز الانتباه وصعوبات أخرى».
من بين العوامل التى تسبب النسيان والتى تحدثت عنها لوفداى هو الملل، موضحة أن الدماغ يتم تحفيزه بواسطة كل ما هو جديد ومختلف، وهذا ما يعرف بالاستجابة الموجهة: «عندما يكون هناك منبه جديد، سوف يدير الطفل رأسه تجاهه. وكبالغين قد نشاهد محاضرة مملة وإذ فجاة يدخل شخص ما إلى الغرفة، يؤدى ذلك إلى إعادة عقولنا إلى العمل».
وأضافت لوفداى: «لقد تطورنا بشكل فعال بحيث نتوقف عن إبداء الاهتمام عندما لا يتغير شىء، ولكن نولى اهتماما خاصا عندما تتغير الأشياء».
من هنا، اقترحت كاثرين أن نشارك فى اجتماع عمل عبر الهاتف أثناء المشى فى الحديقة، بحيث قد نجد أننا أكثر قدرة على التركيز، وذلك بفضل المشهد المتغير والتمرين البدنى، كما نصحت بقضاء بعض الوقت فى غرف مختلفة فى المنزل أو تغيير شكل الغرفة: «أنا لا أقول إعادة تزيين، ولكن يمكن تغيير الصور على الجدران أو نقل الأشياء من أجل التنوع، حتى فى أصغر مساحة».
غياب التميز
فى الواقع، إن تداخل الأيام من دون أى تغيير فى المشهد ولا تغيير فى طاقم العمل، كلها أمور يمكن أن تؤثر على الطريقة التى يعالج بها الدماغ الذكريات، بحيث أن ما نعيشه تحت الإغلاق، يفتقر إلى «التميز».
وأشار جون سيمونز إلى أن الإحساس المرتبك والذى يتمثل بعدم القدرة على تذكر ما إذا كان شىء ما قد حدث الأسبوع الماضى أو الشهر الماضى، من المحتمل أن يرافقنا لفترة من الوقت: «سيكون من الصعب للغاية التمييز بين ذكرياتنا. من المحتمل جدا أنه فى غضون عام أو عامين، قد ننظر إلى الوراء على حدث معين من العام الماضى ونقول، متى حدث ذلك؟».
من أهم سمات هذه الفترة بالنسبة لظاهرة «ضباب الدماغ» ما تسميه كاثرين لوفداى «التفاعل الاجتماعى المتدهور» الذى تحملناه: «إنه ليس نفس التفاعل الاجتماعى الطبيعى الذى كنا سنحصل عليه. تستيقظ أدمغتنا فى وجود أشخاص آخرين، التواجد مع الآخرين هو أمر محفز».
بدوره، اعتبر كارمين باريانتى، أستاذ الطب النفسى البيولوجى فى كينغز كوليدج لندن، أن ضباب الدماغ هى تجربة شائعة، لكنها معقدة للغاية: «إنها تقريبا الطريقة التى يعبر بها الدماغ عن الحزن، بعيدا عن المشاعر»، منوها بأننا بحاجة إلى التفكير فى العقل والدماغ والجهاز المناعى والأنظمة الهرمونية لفهم العمليات العقلية والجسدية المختلفة التى قد تكمن وراء ضباب الإغلاق، والذى يراه نتيجة للإجهاد.
من هنا، شرح باريانتى أنه عندما يقيم عقلنا موقفا بأنه مرهق، فإن دماغنا ينقل الرسالة على الفور إلى جهاز المناعة وإلى الغدد الصماء.
تستجيب هذه الأنظمة تماما بنفس الطريقة التى استجاب بها البشر الأوائل قبل مليونى عام فى السافانا الإفريقية، عندما لم يكن الإجهاد مرتبطا بالتعليم المنزلى، بل متعلقا بالخوف من حيوان ضخم، بحيث ينبض القلب بشكل أسرع ويبدأ الالتهاب من قبل الجهاز المناعى للحماية من العدوى البكتيرية فى حالة التعرض للعض، ويتم إطلاق هرمون الكورتيزول لتركيز الانتباه على الحيوان المفترس.
وقد أظهرت الدراسات أن الكورتيزول يقلل من انتباه الشخص وتركيزه وذاكرته لبيئته المباشرة.
وأوضح باريانتى أن هذا الضباب الذى يشعر به الناس هو مجرد مظهر واحد من مظاهر هذه الآلية، «المفيدة لمحاربة الأسد، وليس لتذكر المكان الذى وضعنا فيه نظاراتنا».
الجدير بالذكر أن جون سيمونز وفريق من الزملاء يجرون حاليا دراسة للبحث فى تأثير الإغلاق على الذاكرة لدى الأشخاص الذين تزيد أعمارهم على 65 عاما.
ويتمثل أحد أهداف هذه الدراسة فى اختبار فرضية الاحتياطى المعرفى، الفكرة القائلة بأن وجود حياة اجتماعية غنية ومتنوعة، مليئة بالتحفيز الفكرى والتجارب الجديدة الصعبة والعلاقات المُرضية، قد تساعد فى الحفاظ على تحفيز الدماغ والحماية من التقدم فى السن.
فى الختام، ينصح جون سيمونز بالخروج والحصول على تجارب وتفاعلات غنية ومتنوعة قدر الإمكان، لتعزيز احتياطينا المعرفى ضمن القيود المتبقية: «نشعر جميعا بالحزن، فى أوقات فى حياتنا نشعر فيها أننا لا نستطيع العمل على الإطلاق. هذه الأشياء مؤقتة ولحسن الحظ نحن نتعافى».
النص الأصلى: