حاولت بكل ما أستطيع من قوة، وباستعمال كل حيل المنطق، أن أفهم ردود الفعل العربية تجاه حدثين واجهتهما الأمة العربية خلال الأسبوعين الماضيين. لكننى لم أستطع الوصول إلى فهم موضوعى متسامح ومقنع.
الحدث الأول هو إقدام البعض من مسئولى هذه الأمة على محاولة إستلال الشًعرة، التى مثُلها مجرم الحرب شمعون بيريز، من العجينة، التى يمثًلها الكيان الاستعمارى الهمجى الصهيونى.
فهل حقا أن تلك الشًعرة لم تكن منصهرة وذائبة ومتفاعلة ومتباهية مع العجينة الصهيونية المعجونة بدماء ودموع وأحزان الملايين من عرب فلسطين ومصر وسوريا والأردن ولبنان، بل وكل العرب؟
هل حقا أن تلك الشعرة ليست جزءا من مذاق تلك العجينة التى سمُمت الحياة العربية وأضعفت كل جزء من الجسم العربى طيلة السبعين سنة الماضية؟
شمعون بيريز، تلك الشعرة السًّامة، أليس هو الذى بدأ حياته السياسية عضوا فى منظمة الهاجانا الإرهابية التى استباحت قرى فلسطين وهجًرت بالرعب وسفك الدماء ساكنيها؟ ألم يتنقل ذلك الصهيونى بين أعلى مناصب كيانه ويشرف على حروبه العدوانية المتكررة ضد العديد من أقطار أمة العرب، ويدير عمليات القتل والإبادة فى مخيمات قانا وصبرا وشاتيلا؟ ألم يسهم فى خيانة ما اتفق عليه فى اتفاقية أوسلو المشئومة ويكون أحد داعمى بناء المستوطنات وسرقة ما تبقى من أرض لسكان فلسطين؟ وحتى عندما حاول خداع العالم باقتراح خطة مستقبل لما سمًى «بالشرق الأوسط الكبير»، لم يستطع إخفاء تعاليه وعنصريته وثعلبية الصهيونية، فاقترح تصوره اللئيم بأن يكون المستقبل مزجا بين العبقرية» اليهودية فى العلم والتكنولوجيا والاقتصاد وبين المال العربى الذى لا تعرف البلادة والجهالة العربية كيف تستعمله فيما يفيد وينفع.
وإذن، وعلى ضوء ذلك وأكثر من ذلك، مما لا يسمح المجال لسرده، هل حقا أن هناك شعرة يمكن أن تٌستل من ذلك العجين الملىء بالقيح والأوبئة؟
فيا حسرتا على الرجولة والشهامة والعدالة واحترام النفس وفهم التاريخ، ويا حسرتا على ما فرطنا فى جنب اللُه وقيم الحقوق والكرامة والنأى بالنفس عن المذلُة والتعاطف مع الإخوة الضحايا.
***
الحدث الثانى هو تمثيلية الكونجرس الأمريكى، وقد تكون بالتعاون مع البيت الأبيض، والتى تأخًّرت خمس عشرة سنة لتعرض على المسرح، وذلك بشأن مقاضاة القطر العربى السعودى من قبل ضحايا اعتداءات الحادى عشر من سبتمبر من سنة 2011 الأثيمة.
لا نريد هنا أن نذكُر بعلامات الاستفهام الكثيرة حول طبيعة الحدث وفاعليه والدور الداخلى الذى لعبه البعض فى عملية تنفيذه. لا نريد أن نشير إلى علاقات التعجًب ومشاعر الشكوك التى تنتاب الكثيرين من الرًفض الأمريكى التام لمراجعة تفاصيل الحدث ونواقص التقرير الرسمى بشأن الكثير منها، وذلك بالرغم من عشرات الفيديوهات والتقارير والمناقشات التى صدرت أو عقدت فى أمريكا نفسها، ومن قبل أمريكيين ذوى ضمائر حية وحاملى قيم أخلاقية رفيعة.
ذاك موضوع ليس مجاله هنا. ما مجاله هنا هو الحديث عن فاجعة ظاهرة «جزاء سنمار» فى علاقات مجلس التعاون الخليجى، وفى قمُته تجلس المملكة العربية السعودية، علاقاته «بالحليف» الأمريكى.
فبالنسبة للبترول انتهجت دول مجلس التعاون المنضمة لعضوية منظمة أوبك، عبر تاريخ المنظمة، سياسة الإصرار على إبقاء أسعار البترول فى المستوى الذى ترضاه أمريكا ولا يضر باقتصادها. بل وبقى البترول الخليجى فى الواقع مخزنا استراتيجيا أمريكيا للطاقة، يستخرج ويباع حسب الإملاءات الأمريكية وحسب الحفاظ على مصالحها الدولية.
وبالنسبة للسياسات الخارجية، وقف بعض أعضاء مجلس التعاون، قبل قيامه وبعد قيامه، وإلى اليوم، وقفوا «كحلفاء» لأمريكا، هل نذكُر أنفسنا بالدور المتناغم مع الرغبات الأمريكية فى هزيمة الاتحاد السوفييتى فى أفغانستان، ومن ثمُ تفكٌكه وسقوطه المدوى؟
هل نذكٌر أنفسنا بالتساهل مع محاصرة شعب العراق، ثم احتلال دولته ليصبح العراق العربى، الموغل فى التاريخ، العروبى والمحارب فى خندق كل قضية قومية عربية، ليصبح ألعوبة فى يد إيران وأمريكا والطائفيين والفاسدين، وليسقط فى النهاية جثة عاجزة أمام القاعدة وداعش؟
هل نذكٌر أنفسنا بالدور الملتبس الملىء بالغموض والأخطاء فى دعم التحالف الدولى الذى تقوده أمريكا فى سوريا، والذى تحوم الشكوك حول أهدافه وأساليب عمله وتناغمه مع رغبة الكيان الصهيونى فى تدمير سوريا نظاما والتزاما قوميا؟
هل نذكُر أنفسنا بالاستثمارات الخليجية الهائلة فى صالح الاقتصاد الأمريكى وإصرار الخليج على بقاء الدولار الأمريكى كعملة مهيمنة فى الأسواق النفطية والمالية الدولية؟
ولكن أمريكا تناست كل ذلك، وها هى تمارس رذيلة «جزاء سنمار» كما فعلته فى عشرات الساحات الدولية الأخرى.
***
والسؤال: هل سنظلٌ نمارس الأخطاء والخطايا والبلادات والمماحكات، والشكٌ فى أنفسنا واخوتنا فى العروبة والإسلام، واعتمادنا الذليل على قوى الخارج، وإبقاء شعوبنا ومجتمعاتها المدنية فى الهامش والظلً؟ أم سنعيد النظر، حكومات ومجتمعات، فى استراتيجياتنا التعاضدية والوحدوية القومية، ونبتعد عن وهم الخلاص الفردى لهذا القطر أو ذاك، ونقتنع نهائيا بأن درب العروبة ودروب الوحدة والتنمية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتجديد الحضارى، ليسير فى أرجائها كل قطر، ولتسير فى أرجائها الأمة جمعاء. هم المخرج الوحيد للخروج من هذا الظلام الحضارى والوجودى الدُامس الذى كان الحدثان السابقان جزءا منه ومثالا على السقوط السياسى المذهل الذى نعيشه جميعا وبدون استثناء؟ تلك أسئلة الساعة، فما عاد بالإمكان ممارسة تمثيلية المجاملة.