تحت عنوان «اعتزال صاحبة الجلالة» تساءلت الأستاذة سناء البيسى الكاتب الصحفية الكبيرة فى مقال لها نشر قبل عامين فى «الأهرام»: «ما الذى جرى لنا بالضبط؟!.. تلك الوضعية المتدنية التى انحدرنا إليها!.. ذلك الكابوس الذى يطبق على أنفاس المهنة»، فى إشارة إلى ما جرى لـ«صاحبة الجلالة» وأبنائها نحن معشر الصحفيين.
حملت الكاتبة الكبيرة مسئولية ما وصلت إليه المهنة من «هلهلة وهرتلة وسوقية وامتهان وعدم احترام واهتمام من دوائر الدولة»، لأرباب المهنة الذين «انقسموا شيعا وطوائف شتى مرتزقة ومفترسة».. والذين أصيبت «أقلامهم بالحوَل فأصبح لا يرى سوى البلاء والبلى».. والذين يحاولون «التطاول وإجهاض كل جديد ولو كان المولود مدنا تترى، ومساكن كغابات من أسمنت تسد عين الصحراء، وأبراجا وأنفاقا وصوامع ومشاريع ومحاور وقناة جديدة شريانا للحياة.. وعاصمة جديدة بزغت للنماء».
ضربت الأستاذة مثلا بما جرى مع أستاذ الأساتذة محمد التابعى قبل عقود، وكيف غضب عندما شطب الرقيب ثلاث فقرات للمحرر الناشئ إبراهيم الوردانى الذى كان يعمل معه فى «آخر ساعة، وكيف اصطحبه التابعى إلى مكتب وزير الداخلية فؤاد سراج الدين؟، وكيف ركل التابعى باب الوزير بحذائه ليفتح الباب ويصب جام غضبه على الباشا ورجاله؟ وينطلق فى وجهه معنفا ومزمجرا، يطالبه بالرفت الفورى للرقيب الوقح، فما كان من الوزير إلا أن يعتذر لأمير الصحافة ويسترضيه «اهدأ يا محمد.. روق يا تابعى.. نرفت لك الرقابة كلها يا سيدى بل تعتذر لك أجهزة الحكم كلها».
يا سيدتى، ما أصاب الصحافة فى مقتل هى السلطة وليس أرباب القلم، فصاحبة الجلالة نزع عنها سلطانها خلال السنوات القليلة الماضية، ليس بسبب تفرق أبنائها شيعا ولا لأن أقلامهم أصيبت بالحول فلا ترى إنجازات السلطة، بل لأن عمليات االحصار التى امتدت لتطال تغطيات خبرية لقضايا تمس حياة المواطن، ووصل الأمر إلى منع أهل المهنة من الاشتباك أو نقد القوانين المنظمة للصحافة والإعلام، أو توضيح خطورة فتح ملف قانون نقابة الصحفيين فى تلك اللحظة لأبناء الجمعية العمومية.
يا سيدتى، لقد هبت علينا فى السنوات العجاف الماضية، ريح صرصر عاتية، فاقتلعت جذور المهنة واستأصلت قلوعها، ففرضت علينا قائمة محظورات جعلت من صحف مصر ومواقعها نشرات تقدم للقارئ نفس المحتوى وذات العناوين، ومن رفض الحصار والإخضاع عوقب بالحجب والمصادرة، فما كان من الجمهور المتلقى إلا أن يهجرنا ويبحث عن منصات تدغدغ مشاعره وتشتبك مع همومه وتنقل ما لا ننقله إليه.
لم تكتف السلطة بممارسة عمليات الحصار والرقابة والحجب والسيطرة بشكل يومى على المحتوى الصحفى ، بل عملت على شرعنة تلك الحالة ومررت قوانين تقنن بها الإجراءات الاستثنائية اليومية، وأعطت لمجلس شبه حكومى صلاحيات يمارس بها دور الرقيب فى النور ودون أى حرج أو لوم قضائى، واعطته سلطة تقديرية يصدر من خلالها قرارات بالحجب ومنع التداول وسحب التراخيص، وحتى تكتمل عملية الحصار والتأميم خرج علينا بعض الزملاء بمشروع غريب لتعديل قانون نقابة الصحفيين، أعد بليل لتدخل النقابة نفس الحظيرة التى سبقتها إليها المؤسسات.
أخيرا. يا سيدتى، منذ نشر مقالك قبل عامين جفت فى نهر الوطن والصحافة مياه كثيرة وتبدلت الأحوال.