على ناصية الشارع الضَّيق توقَّفت سيدةٌ ستينيةٌ أمام بائعة خُضرواتٍ في مثل عمرها، سائلةً عن ثمن الفلفلِ البلدي؛ لا أصفر ولا أحمر ولا أيّ لون سوى الأخضر العاديّ، فما إن سمعت الإجابةَ حتى شَهقت ثم أطلقت من صدرِها صيحةً واحدة: يا وَكستي. شاركتها البائعةُ التعبيرَ عن مَبلغِ الفجيعةِ دون تحفُّظ أو استنكار؛ فما كان مُستتِبًا في عرفَيهما قد تزَعزَع، وما كان مأمولًا قد تولَّى، وما لم يكُن ضمن أسوأ كوابيسِهما قد تحقَّق.
• • •
يأتي الفعلُ وَكسَ بمعنى نَقص وقلّ؛ إذا وَكِسَت الغلَّةُ فقد شحَّت، وإذا وَكَس واحدٌ الآخر فقد ظلمَه أو انتقصَ من قَدرِه. الواكسُ هو الفاعلُ والمَوكوسُ مَفعولٌ به، أما الوَكسةُ فاسم المرَّة؛ يُرجَى دومًا أن تظلَّ واحدةً بلا إعادةٍ أو تكرار.
• • •
عرضت الشاشاتُ في شهرِ رمضان مُسلسلًا بعنوان "جَت سليمة"، حيث ظهرَت شخصيةُ البَطل باسم "مَوكُوس"؛ الرَّجلُ الذي يتبيَّن المشاهدون من خلالِ الأحداثِ المُثيرةِ أنه مُستحِقٌّ لعرشِ المَلك، وأنه الوريثُ الطبيعيّ للأرض وما حَوَت. يتعرَّف "مَوكوس" عن غير قصدٍ على "سَليمة"؛ الشابة التي انتقلت عبر الزمانِ والمكانِ بطريقةٍ سِحريَّة، والتي تُساعده على استكشافِ الآخرين والتعرُّف إلى ذاته وتعديل بعضِ سلوكياتِه وأفعاله، كما تعاونه على استرجاعِ حقّه. تجتذبُ الأحداثُ المُشاهدَ إلى عالمٍ مُبهِر على مُستوى الصورةِ، مُتقَن على مُستوى الإخراجِ، ومَليء بالإسقاطاتِ الذكيَّة على مُستوى السيناريو والحوار. المُسلسلُ من تأليف كريم يوسف وسامح جمال وإخراج إسلام خيري، أما البطولة فلنَجمَين خفيفيّ الظلّ سَلِسيّ الأداء؛ دنيا سمير غانم ومحمد سلَّام.
• • •
كثيرون هُم أصحابُ الأعمال الذين يَسمع المرءُ بسوءِ أحوالِهم هذه الأيام؛ فلا يَجد في نفسه سوى دهشَة عارمةً مَمزوجة بفيضٍ من الأسى. بعضُهم كان ملء العينِ والسَّمع، ينشط في عمله ويَحصد أينما حلَّ نظراتِ الحَسد وكلماتِ الاستحسان وآهاتِ الإعجاب؛ فإذا به يُجبَر على غلق مَشروعاته وتصفيتها؛ حتى ليفضلَ في لحظة الحَسمِ أن يكفَّ المُحاولةِ وأن يلزمَ بيته. يُمسي وقد تعطَّلت مَساعيه ووَكِسَت تجارتُه، وذهبت أموالُه هباء.
• • •
يشير الوَكْس بتسكين الكاف إلى البيع بالخسارة، وله بالقطع أسبابٌ ودوافع. بعضُ المرات تُصابُ الأسواقُ بالركود ويعزفُ الناسُ عن الشِراء؛ فتبور البضائع وتوشك على الفساد، ويضطر أصحابها إلى طرحها بأثمان منخفضة؛ عساهم يَحدون من حجم الخسائر المتوقعة ويسترجعون بعضًا مما أنفقوا. ثمَّة متاجر تشتهر ببيع البضائعِ التي شارفَت تواريخُ صلاحيتها على الانتهاء، تعرضُها بأسعارٍ قليلةٍ ربما تصلُ إلى نصفِ السعرِ الأصلي. يُدرك الناس حقيقتها؛ لكنهم في أزمنةِ الفاقةِ والعَوَز مُرغمون على استهلاكِ المُتاح وإن كان مَعطوبًا أو وشيكَ التلفِ، وعلى شراء ما يسدُّ الجوعَ في لحظته دون أن يتمكَّنوا من الاحتفاظِ به ولو لبضعةِ أيام، والحقُّ أن الخيرَ إذا وَكِسَ في البيوت، توتَّرت العلاقات وتولَّدت المُشاحنات؛ بل وظهرت جرائمٌ لم تكن يومًا في الحسبان.
• • •
ما بين الوَكسةِ والنَّكسة حرفٌ واحد لكنه مُؤثر في الدرجة، فارقٌ في المعنى. بعض المرات تدعو الأمُ على ولدِها ولسانُ حالها ينطقُ بالعكس: جاءتك وَكسَة. لا يكون دعاؤها بالقطع مقصودًا؛ إنما هي خيبةُ الأمل التي تتلقاها منه، فتُعلِن عنها وتتمنَّى في الوقت ذاته زوالها. النَّكسةُ توحي بالانتقال من الإيجابيّ إلى السَّلبي؛ لكنا لا نجد مَن يَدعو على آخر بأن يُصابَ بنكسةٍ ما، فالمُفردة تبدو ضَخمةً مُعقدةً، وهي ليست حاضرةً في استعمالاتنا اليومية، وعلى كل حالٍ قد ينتكِسُ المرءُ فينتقل من حالِ الصحَّة إلى المَرض بعدما ظنَّ في الشفاء، أو ترتد أوضاعه الاقتصاديةِ من حالِ التعافي فتسلِك المَساقطَ والمُنحدرات. كذلك قد يخسر بلد مَعركةً حربيةً ضمن سِلسَلة مَعارك مُتواصلة، وقد يعاود من بعدها الانتصار، وبين أحوال الصحَّة والحروب والمَكاسب والإخفاقات؛ نستخدم مُشتقاتِ النَكس ونمتنع عن الوَكس.
• • •
أصابتنا هزيمةٌ نكراءٌ في ستينيات القرن الماضي، فأطلقنا عليها مُسمى النكسةِ تخفيفًا من وطأة الموقفِ وتهوينًا من الشعور بالانكسار. استفقنا وسعينا لتعويض ما جرى، وقد كان.