أسمع كثيرا كلمة «تكنوقراط»، فى الآونة الأخيرة. وهى تستخدم أحيانا للازدراء حيث يقال لنا إن مبتكرى عملة اليورو الموحدة، من التكنوقراط الذين لم يأخذوا فى الحسبان العوامل البشرية والثقافية. وأحيانا تعتبر مصطلحا للثناء: حيث يوصف رئيسا وزراء اليونان وإيطاليا الجديدان بأنهما من التكنوقراط، الذين سوف يترفعون عن السياسة، ليفعلوا ما يجب القيام به. وأرى أن هذا هراء. فأنا أعرف التكنوقراط، وأحيانا أكون واحدا منهم. وهؤلاء الناس الذين دفعوا أوروبا إلى اعتماد عملة موحدة، والذين يدفعون كلا من أوروبا والولايات المتحدة إلى التقشف ليسوا تكنوقراط. بل إنهم رومانسيون غير عمليين بالمرة. وهم، بالتأكيد، سلالة مملة بوجه خاص من الرومانسيين، ويتحدثون لغة طنانة بدلا من الشعر. وما يطلبونه باسم رؤاهم الرومانسية غالبا ما يكون أمورا قاسية، تنطوى على تضحيات هائلة من العمال والأسر العادية. ولكن تظل الحقيقة أن هذه الرؤى مدفوعة بالأحلام حول ما ينبغى أن تكون عليه الأمور، وليس بناء على تقييم هادئ للأمور كما هى فى الواقع.
●●●
ومن أجل إنقاذ الاقتصاد العالمى، يجب علينا إسقاط هذه الرومانسيات الخطرة من أسس تفكيرهم. ولنبدأ مع إنشاء اليورو. فمن الخطأ الاعتقاد أن هذا المشروع كان قائما على حساب دقيق للتكاليف والمنافع. والحقيقة هى أن مسيرة أوروبا نحو عملة موحدة كانت، منذ البداية، مشروعا مريبا فيه وفقا لأى تحليل اقتصادى موضوعى. وكانت اقتصادات القارة متباينة بحيث لا يمكنها العمل بسلاسة وفق سياسة نقدية موحدة القياس، تناسب الجميع، من المتوقع للغاية أن تشهد «صدمات غير متماثلة» يعانى فيها بعض البلدان الهبوط بينما يزدهر البعض الآخر. فعلى عكس الولايات الأمريكية، لم تكن الدول الأوروبية جزءا من أمة واحدة بميزانية موحدة وسوق عمل يربطه لغة مشتركة.
فلماذا ضغط هؤلاء «التكنوقراط» من أجل اليورو، متجاهلين تحذيرات العديد من الخبراء الاقتصاديين؟ يرجع ذلك جزئيا إلى حلم الوحدة الأوروبية، الذى وجدته النخبة فى القارة مغريا بحيث تجاهل أعضاؤها الاعتراضات العملية. كما يرجع جزئيا صعود العقيدة الاقتصادية، أو الأمل المدفوع بالرغبة فى التصديق، على الرغم من الأدلة الهائلة على عكس ذلك فى أن كل شىء سيسير على ما يرام ما دامت الدول تمارس فضائل العصر الفيكتورى من استقرار الأسعار والحكمة المالية.
والمحزن أن الأمور لم تنجح مثلما كان مأمولا. ولكن، بدلا من التكيف مع الواقع، تمسك هؤلاء التكنوقراط بموقفهم، فأصروا على أن اليونان على سبيل المثال يمكنها تجنب التأخر فى سداد الديون عبر تطبيق إجراءات تقشف شديدة. فقد كان ملحوظا أن البنك المركزى الأوروبى على وجه الخصوص المفترض أنه المؤسسة التكنوقراطية الرئيسية، يلجأ للخيال عندما تسوء الأمور. وفى العام الماضى، على سبيل المثال، أكد البنك إيمانه بوهم الثقة وهو الادعاء بأن تخفيض الميزانية فى الاقتصاد المنهار سوف يعزز النمو فى الواقع، من خلال زيادة ثقة المؤسسات التجارية والمستهلكين. ومن الغريب أن أن ذلك لم يحدث فى أى مكان.
والآن، بينما تمر أوروبا بأزمة لا يمكن احتواؤها إلا إذا اتخذ البنك المركزى الأوروبى خطوات لوقف الحلقة المفرغة من الانهيار المالى مازال قادتها يتشبثون بفكرة أن استقرار الأسعار يشفى كل العلل. وفى الأسبوع الماضى، أعلن « ماريو دراجى» رئيس البنك المركزى الأوروبى الجديد، ان «ترسيخ توقعات التضخم، هو المساهمة الكبيرة التى يمكن أن نقدمها لدعم النمو المستدام وخلق الوظائف، والاستقرار المالى».
وهذا ادعاء خيالى تماما فى حين أن التضخم الأوروبى، إذا حدث، سيكون منخفضا للغاية،ولا يؤرق الأسواق إلا الخوف من انهيار مالى قريب. وهو ادعاء أشبه بالخطاب الدينى أكثر منه تقييما تكنوقراطيا. وعلى نحو واضح، فهذا ليس طنطنة مناهضة لأوروبا، لأن لدينا أشباه التكنوقراط يتولون تزييف الجدل السياسى. وعلى وجه الخصوص، نجحت جماعات غير حزبية من «الخبراء» المزعومين لجنة اعداد موازنة فيدرالية مسئولة، وتحالف كونكورد، وهلم جرا فى اختطاف النقاش حول السياسة الاقتصادية، وصرف التركيز عن خلق فرص العمل إلى العجز.
وكان الأحرى أن يتساءل التكنوقراط الحقيقيون عن السبب فى أن معدل البطالة 9 فى المائة بينما يبلغ سعر الفائدة على الدين فى الولايات المتحدة 2 فى المائة فحسب. ولكن المسئولين الماليين عندنا مثل البنك المركزى الأوروبى لديهم روايتهم حول ما هو مهم، وهم ملتزمون بها بغض النظر عما تقول البيانات.
●●●
فهل أنا مناهض للتكنوقراط؟ لا على الإطلاق. أنا أحب التكنوقراط وهم أصدقاء لى. ونحن بحاجة إلى الخبرة الفنية للتعامل مع المشكلات الاقتصادية.
لكن خطابنا مشوه للغاية بفعل المنظرين والمفكرين بالتمنى الرومانسية الباردة القاسية ــ الذين يزعمون أنهم من التكنوقراط. وحان الوقت لكشف ادعائهم..