فى اللغة الإنجليزية يستخدم مصطلح «محتوى البيت» للإشارة إلى عدد أفراد العائلة، أو بشكل أدق إلى محتوى البيت من الأفراد، أى من يعيشون فيه. كما أن المصطلح نفسه يعنى، إن استعمل فى سياق مختلف، محتوى المنزل من أشياء، أى الأثاث ومقتنيات ساكنيه وما يملكونه ويستخدمونه فى حياتهم فى المنزل. الكلمة مركبة فيها جزءان: بيت واحتواء، ما يحتوى عليه البيت، أشخاص وأشياءهم، حياتهم وتفاصيلهم، أفراد عائلة واحدة أو أشخاص يتشاركون المساحة فيخلق بالرغم عنهم بعضا من الحياة المشتركة.
***
قد يتساءل قارئ هذا المقال عن سبب توقفى عند كلمة عادية فى لغة أجنبية تستخدم فى سياق البحث عموما حين يتم إجراء مسح مثلا حول القدرة الشرائية عند عائلة متوسطة فى بلد أو منطقة، ثم يخلص أن «محتوى البيت» يحتاج إلى هذا المبلغ حتى يؤمن أدنى المتطلبات.
أكتب المقال وورائى على الحائط علقت لوحة هى بالنسبة لى من أكثر اللوحات تعبيرا عن الوضع السورى: جواز سفر سورى حوله الفنان إلى شنطة سفر، فرسم له حزامين جلديين يغلقانه وزاد عليه مسكة كتلك التى نحمل بها أى شنطة.
***
ما محتوى الشنطة السورية؟ ما الذى يأخذه معه السورى فى ترحاله ويفرده فى أى بيت يستقر فيه حتى لو بشكل مؤقت؟ ينخر السؤال مخى منذ أن شاهدت فيلما عن فن التطريز الفلسطينى، والذى له شكل خاص يدل على الهوية الفلسطينية ويحافظ على تراث أصبح، خصوصا بالنسبة لفلسطينيى المهجر، خيط حياة يربطهم ببلد وتاريخ سمعوا عنه أكثر مما عاشوه. الثوب الفلسطينى بياقته المطرزة أصبح شكلا من أشكال مقاومة الاحتلال، مقاومة المحاولات المستمرة لطمر الهوية الفلسطينية واقتلاعها من مكانها، محاولة لمقاومة الغربة.
***
سألت نفسى بعد أن شاهدت الفيلم عما يمكن أن تحتويه الشنطة السورية فى الغربة. قررت أن أملأ شنطة وأضعها خلف باب البيت، كى لا أضطرب وأنا أبحث عن أشيائى فى وقت ضيق إن اضررت أن أرحل. زجاجة ماء الزهر سوف أضيف قطرات منه على الماء البارد، أضع الزجاجة فى الشنطة. لكن حتى أحميها من الكسر، ألفها بمفرش مزركش يسميه السوريون «أغبانى»، ويسميه غير السوريين مجازا «مفرش سورى». أضع فى طرف الشنطة إناء معدنيا لصنع القهوة، وألف فنجانين بالمفرش نفسه إذ أنه كبير وسوف أحتاج الفنجان الإضافى لأننى أحتاج لنديم فى القهوة وأرمى كيسا من البن المطحون مع الهال سوف أشرب معه مرارة البعد فيذوب فى أسفل الفنجان ويبقى هناك.
***
صابون الغار، هل من بيت سورى لا يحتويه؟ القطعة مربعة لونها أخضر مصفر، رائحة كرم الزيتون تترك أثرا فى أنفى تظهر معه جدتى لأمى، «يلا يا تمارا امشى معى على الحمام». رائحة صابون الغار هى جدتى، الرائحة هى جلدها الناعم الأبيض ويداها الرقيقتان تدعكان شعرى بالصابون، فهى لم تكن تؤمن المنظفات الصناعية. رائحة صابون الغار يعنى خزانتها المرتبة ورفوف رصت عليها الثياب المطوية بعناية. أضع صابونة غار كبيرة فى الشنطة.
***
دبس الرمان، بقوامه الثقيل ولونه الغامق... مقدار ملعقتين فى أى وجبة تحتوى على الطماطم وها نحن نجلس فى وسط دمشق، إذ لا صلصة هناك دون دبس الرمان. ألف الزجاجة بمنشفة مطرزة بالخيوط الذهبية أهدتنى إياها صديقة اشترتها من محل فى مدينة حماه. هناك، فى مدينة نهر العاصى والنواعير، تطرز أنامل ماهرة على طريقة «السوداج» القديمة، فتخرج قطعا فنية تشتهر بها المدينة منذ قرون. أطوى القطعة المزركشة وأضعها هى الأخرى فى الشنطة.
***
تنقصنى علبة من خشب الجوز مطعمة بالصدف. لم أكن أحب هذا الطراز فى صغرى، لذا فلم أقتن أيا منها فى وقتها وها أنا نادمة على فقرى. فهل من بيت سورى لا يحتوى حتى لو على قطعة صغيرة من الخشب المطعم؟ أتذكر فجأة هدية من والدى بمناسبة زفافى منذ سنوات. اشترى لى من السوق القديمة قبقابا للعروس. هو فعلا قبقاب يقال إن كل عروس سورية كانت تلبسه يوم زفافها فيزيدها طولا ويزيد حماتها فخرا بطول عروس ابنها. أين هو قبقابى؟ نعم أضعه هنا فى الشنطة قرب صابون الغار، ها أنا عروس من جديد تحمل شنطة جهازها وتستعد لفرد محتوى بيتها فى أى مكان تحط فيه.
***
أظن أن داخل كل شنطة سفر سورية كمية من القصص تطغى على زجاجة ماء الزهر وقطعة صابون الغار وغيرها. فى كل شنطة قصص عن سكان البيت والجيران فى الحارة لم تحك بعد. فى شنطة السفر السورية محتوى بيت بأسره من حكايات ما قبل النوم همستها جدة تزركش يديها بقع بنية وترقص فى شعرها خيوط من الفضة. هى حكايات أحكيها اليوم لأولادى قبل النوم، كما فعلت أمهات فلسطينيات من قبلى فزرعن فى أولادهن انتماء لبلد لم يروه، وشكلن لديهم ذاكرة بصرية بالوكالة عن أرض غنية بالبرتقال.
***
أنا جاهزة، شنطتى خلف الباب، سوف أفردها فيظهر محتوى البيت بسكانه وأصواتهم ورائحة المطبخ فى يوم العيد. سوف يظهر البيت ويسمع أولادى القصص بينما أزيد قطرات من ماء الزهر على إبريق ماء مثلجة فتأخذنى إلى هناك دون أن أتحرك من هنا.