هناك عشر سنوات سحرية تبدأ فيها مرحلة عمرية ينخفض خلالها مستوى القلق والشك ليحل محلهما نوع من الرضا والثقة بأن الخبرة والحدس قد يكونان أفضل معيارين لقراراتنا. هى سنوات أظن أننا نحصد خلالها بعض ما استثمرناه من مجهود، وبعض ما استثمرناه من عواطف وعلاقات وصداقات.
• • •
فى حالتى، هى مرحلة لم يعد فيها أولادى بحاجة مستمرة إلى، ولكنهم لم يخرجوا من البيت بعد. هو ذلك الباب الموارب الذى ما زلت أدخل منه إلى حياتهم، خصوصا الولدين الأكبر عمرا، فهما لا يزالان يسمحان لى بالتحكم بجزء من حياتنا اليومية، خصوصا الجزء المتعلق بالقرارات العملية.
• • •
هى أيضا مرحلة استقرت فيها حياتى المهنية بعض الشيء رغم زخمها وساعات العمل الطويلة، وها أنا أجلس على نحو عشرين عاما من الخبرة مختلفة الجوانب، فيها نجاحات وصعوبات واجهت بعضها وكان بعضها الآخر أقوى منى. لكنى لم أقترب بعد من التقاعد فلا يرانى بعد من هم أكثر شبابا وكأنى أقترب من مدة انتهاء الصلاحية خاصتى.
• • •
فى العلاقات العائلية، هناك أيضا عدة خطوط مستقيمة تتعلق بالزواج وصحة الأهل والأقرباء، لا مفاجآت تستدعى تدخلا طارئا ولا أحد ربح المليون فى اللوتو أو اليانصيب أيضا، هو خط مستقيم.
• • •
هل هى عشر سنوات فعلا؟ بالطبع لا. المحظوظون من الناس هم من تستقر بهم الخطوط المختلفة دون أحداث كبرى، حتى لو لسنوات معدودة، هى ما قد يسميها البعض «العمر الأوسط»، تلك المرحلة الدقيقة التى تصل عمر الشباب بالعمر المتقدم.
• • •
هو فى الواقع «عمر محير»، بنفس قدر الحيرة التى تثيرها سنوات المراهقة الأولى التى يشار إليها على أنها «العمر المحير»، وهو العبور من الطفولة إلى المراهقة. لماذا لا نصف العبور من الشباب إلى التقدم بالعمر «بالمحير»؟ فهو أيضا عمر يصعب تحديده وتحديد شعور من يمر به ويثير الشك عند من حوله فيتوجهون لصاحبه مرة باسمه ومرة بلقب «عم» و«خالة» وأحيانا «حج».
• • •
لو كان للعمر ألوان قوس قزح فأظن أن العمر الأوسط لونه بنفسجى، خليط بين الأحمر والأحداث وانفعالات الشباب والأزرق وهدوء ما بعد عواصف الحياة. تصبح العلاقة مع المحيط أقل توترا فى الأمور الصغيرة، وأكثر حدة فى الأسئلة الكبيرة، فالتوافق على اليومى يصبح أكثر سلاسة مقابل عدم التنازل عن قناعات أخذت وقتا طويلا حتى نضجت. أما المعارك فتصبح أقل عددا وأكثر شدة، نختارها بعناية فلا نهدر طاقة على ما لا يستحق، ونفتح مخزون النقاش كله إن لمس أحدهم ما نراه قيما فأهانه.
• • •
العمر البنفسجى إذا مرحلة لا تأخذ حقها من التقدير، هى كمن يسوق سيارة وينتقل من الأول إلى الثانى والثالث، ثم تستقر قدمه على دواسة البنزين على الرابع لمرحلة من الرحلة يشعر بها السائق بثقة إذ يعرف الطريق والسيارة ولا يتوقع مفاجآت. يختار الموسيقى التى سترافقه، أظن أنه، أى السائق، سيتنقل بين مقاطع مفضلة من أغانى فيروز وبعض ما تعرف عليه من خلال أولاده والذى يختلف تماما عما ألفه إنما استساغه من كثرة التكرار.
• • •
يشترط لتحقيق كل ما سبق أن تمر المرحلة البنفسجية دون مطبات قد تقلب السيارة بمن فيها. السائق الواعى هو من يعرف أنه قد يواجه حادثا فى أى وقت، حتى وإن بدا له الطريق سلسا. ما عمر السائق؟ عمره بنفسجى، يدوس على البنزين فيشق طريقا يكون فيه الأحمر والأصفر والبرتقالى خلفه. العمر الأوسط هى سنوات قصيرة جدا تمضى بسرعة لدرجة أنها لا تأخذ حقها من الثناء والتقدير.
• • •
سنوات العمل أو الزواج الأولى تبدو فجأة وكأن أحدنا نجا من زوبعة! لماذا كل هذا التوتر وذلك الإيقاع الأشبه بالطبلة البلدى من يد موسيقى ماهر ينقر بسرعة دون توقف؟ قد يستمر الإيقاع على فكرة، ما يتغير هو تعاملنا معه وردنا على الطبال: هو حر أن يعزف كما يشاء وأنا سوف أختار إيقاعى بنفسى.
• • •
الحقيقة أن العمر الأوسط هو حين تبدأ تصرفات من حولى بالتغير تجاهى، وحين أتوجه إلى من أراهم فى سنى بالكلام بلا تكليف فيجيبوننى باحترام أراه مبالغا فيه يدل أنهم لا يرون أننى بعمرهم، ويفاجئنى ذلك. هو أيضا عمر تبدأ من أراهن خالات بالتعامل معى بلا تكليف، ها أنا إذا أمر عبر أبواب زجاجية منزلقة، أدخل من طرف الشباب وأخرج عند الخالات. بما أننى صرت واعية بالأبواب المنزلقة هذه وما ستؤثر به على حياتى حين أمر عبرها، أقرر أنى سوف أضع قدمى على السكة لأمنعها ولو قليلا من الانزلاق. سأمد قدر المستطاع هذه المرحلة، العمر المحير فى حلقته الثانية. سوف أستمتع بالنظرات المتسائلة عن عمرى، فأنا فى مكان يصعب تحديده، وحين يسألنى أحدهم عن عمرى، سأقول أنه بنفسجى.