العودة إلى المدرسة.. وظهور الديناصور - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 19 ديسمبر 2024 1:58 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العودة إلى المدرسة.. وظهور الديناصور

نشر فى : الأربعاء 16 أغسطس 2023 - 8:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 16 أغسطس 2023 - 8:10 م

مع حلول النصف الثانى من شهر آب / أغسطس، يبدأ العد التنازلى فى البيوت التى فيها أولاد وبنات وجدول دراسى. فرغم موجة الحر الشديدة والتى لا تنذر أبدا بقرب انتهاء موسم الصيف، إلا أن ثمة إعلانا غير مكتوب أن منتصف الشهر الثامن يعنى انسيابا لا مفر منه نحو الموسم الدراسى.
• • •
فى الذاكرة الجماعية لأولاد وبنات جيلى، قد يكون أوضح عامل بصرى هو تنظيف منزل على الشاطئ أو فى الجبل، فى الحالتين الجو أرحم من جو المدن، وترتيب الخزانة، ورص الدفاتر والأقلام. آخر الصيف يعنى بداية موسم، وقد يشير الكثيرون إلى «السنة الجديدة» بمعنى السنة الدراسية الجديدة، و«السنة الماضية» هى ما سبق إغلاق المدارس فى بداية الصيف.
• • • «آخر أيام الصيفية» بطيئة، كسولة، فيها من الدلع مقدار «تعسيلة» ما بعد وجبة الغداء، حين تثقل البطون والجفون والعقول وتخف الحركة عموما فى البيت وفى العمارة وفى الشارع. تذكرت أخيرا مع بعض الأصدقاء ساعات كانت تقترب من القداسة فى ذروة الحر بعد الظهر حين يتوقف الهواء تماما عن الحركة ويتوقف معه أهل البيت عن حركتهم أيضا. فى بيتنا، كما فى بيوت من حولى، كان من غير اللائق الاتصال عبر الهاتف خلال الساعات هذه، وكان الهاتف أرضيا يسمعه كل من فى البيت، خصوصا الأب ذو القيلولة المقدسة هى الأخرى.
• • •
طقوس بعد الظهر قد تختلف من بيت إلى آخر لكن يبدو أن هناك إجماعا حول انخفاض فى الطاقة يوازى الارتفاع فى درجة الحرارة. اليوم ومع أخبار انقطاع التيار الكهربائى فى القاهرة ودمشق، المدينتين اللتين أنتمى لهما، أعود إلى أيام الطفولة والمراهقة وتلك الساعتين فى فترة بعد الظهر حين نسدل الستائر الخفيفة منعا للوهج، ونستلقى قرب الشباك فى محاولة لاصطياد النسمة إن دخلت. كان ذلك قبل الحياة الافتراضية والهواتف الذكية التى باتت اليوم ترتبط باليد وكأنها، أى الهواتف، كف ثالث لم يعد من الممكن التخلى عنه.
• • •
أتذكر الوقت يمر ببطء شديد فى ساعات الظهيرة، وتختلط فى ذاكرتى الدقائق وهى تتلكأ فى المضى مع رائحة صابون غسل الأطباق، ففترة بعد الظهر أى بعد وجبة الغداء هى أيضا فترة غسيل الأطباق وطرقها، سواء فى مطبخنا أو ما كان يصلنى من مطبخ الجيران. قد تدخل على تلك الفترة أيضا أصوات مذيعى الراديو ومقدمى الأخبار، مع فواصل من الموسيقى أتذكر بعضا منها.
• • •
اليوم، تعود إلى هذه الأصوات والصور والروائح مع موجة الحرارة الشديدة التى نشهدها رغم اختلاف كل شىء آخر. لا أعرف إن كانت قيلولة ما بعد الغداء ما زالت سارية فى بيوت كثيرة اليوم، إذ اختلفت حتى ساعات الدوام ورحلت معها ساعة الغداء إلى فترة المساء فى كثير من البيوت. تذكرت مع أصدقائى عودة الأب من عمله وهو ما كان يقسم اليوم إلى جزءين، يبدأ الجزء الثانى منه فى المطبخ وقت الغداء.
• • •
بالعودة إلى النصف الثانى من شهر آب/أغسطس، فهو بمثابة استدعاء للجميع بالعودة إلى برنامج صارم تتحكم فيه ساعات الدراسة. اليوم أصبحت «العودة إلى المدرسة» موضوع حملات إعلامية وتجارية استهلاكية للترويج لمدارس خاصة ومكتبات تبيع أكثر بكثير مما يحتاجه الطلاب فعليا. أما بالنسبة لى، فالمكتبة هى تلك التى رأيت فيها للمرة الأولى علبة ألوان من الصفيح الخفيف أعطت الأقلام هيبة لم تكن عند العلبة الكرتونية التى اعتدت عليها من قبل. مكتبة كتلك التى أغلقت أبوابها فى الحى الذى عشنا فيه فى القاهرة، بعد أن خدمت أجيالا من أبناء الحى. لقد حزنت مع جيرانى على خبر إغلاق المكتبة، كما أحزن فى كل مرة يغلق فيها متجر مستقل أبوابه بسبب عدم قدرته على أن يجارى المتاجر الكبيرة التى جذبت المستهلكين فى العقد الأخير.
• • •
فى العودة إلى المدرسة عودة إلى تفاصيل أحكيها لأولادى لأننى أخاف أن أنساها مع الاختفاء السريع لطقوس يبدو أن لا مكان لها اليوم عند جيل الذكاء الاصطناعى والمجتمع الافتراضى والهاتف الذكى. أنا أصلا بدأت أحكى قصصا تنقلنى إلى الجيل السابق بعين أولادى، فتسألنى ابنتى إن كان هناك هذا الشىء أو ذاك «حين كنت صغيرة» وكأننى من عصر الديناصورات. فى العودة إلى المدرسة عودة إلى عصر الديناصورات على ما يبدو، إذ حتى الصيف صار لا ينتهى بينما كانت درجة الحرارة تبدأ بالانحسار منذ سنوات مضت حين كان يقترب موعد الدوام المدرسى.
• • •
فى كل موسم عودة إلى المدرسة، يعود الديناصور الذى بدأ يكبر فى داخلى ليذكر السكان الجدد بتفاصيل كانت تحدد حياة السكان القدام: ساعات الظهيرة المقدسة، نسمة باردة تبدأ بمداعبة الوجوه فى بداية شهر أيلول/سبتمبر، مكتبة الحى بصاحبها الذى يعرف كل السكان، وذلك الشعور الخفى بفرحة لقاء أصدقاء الفصل بعد أسابيع من الانقطاع. أهلا بعودة الديناصور!

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات