من العبارات التى أجد من الصعب ترجمتها هى جبر الخواطر. فيها مزيج من الاعتراف ببعض الذل إن تم الرفض، وفيها تطلع إلى كرم من سيجبر الخاطر، فيها عشم وهى أيضا كلمة لا أجد لها مرادفا فى اللغات الغربية.
• • •
اللغات تتطور مع تطور المجتمعات، والمجتمعات تتطور مع تطور الأنظمة السياسية والأطر الثقافية والاجتماعية التى يتفاعل فيها الأفراد. لا يخفى على أحد أن تطور المجتمعات فى معظم البلاد الناطقة باللغة العربية بطىء، المنظومة القانونية التى من الممكن أن تنقل توقعات المواطن من العشم بالكرم إلى استحقاق للحد الأدنى من الحقوق معطلة. لذا فكلمات مثل الخواطر وجبرها ما زالت معتمدة فى لغتنا اليومية. أما كسر الخواطر فيبقى هو الآخر فى الكتالوج حيث المجتمعات عموما طبقية هرمية لا تحمى قوانينها من هم أكثر ضعفا وتهميشا فكسر الخواطر أمر مألوف.
• • •
تجذبنى الكلمات وأحب أن أبحث عن أصل المفاهيم فى اللغة، ثم مقارنة التعبير ذاته بين عدة لغات. حين أصل إلى طريق مسدود لغويا، أفكر بالسياق السياسى والثقافى والدينى والاجتماعى الذى لا يمكن نقله من لغة إلى لغة. هذا هو الحال مع كسر الخاطر وجبره، إذ من يعطى لشخص الحق بكسر خاطر شخص آخر دون عقاب؟ أن يذله أو ينهره؟ ولماذا يعتمد الشخص على الخاطر بدل أن يعتمد على حق بالاحترام يضمنه له القانون؟
• • •
فى هذه العبارة الشائعة الكثير من السياسة، ألا تعتقدون؟ فيها أنظمة قمعية ومجتمعات أفرادها غير متساوين، فى العبارة أيضا توسل وتجبر، توقع وقسوة، انكسار وإرضاء. كذلك هى العلاقات فى البلاد الناطقة بالعربية، حيث ما زال الفرد خارج معادلة القوى، خارج دائرة القرارات، أى قرارات، ينتظر القدر وأن يتكرم عليه المدير أو السياسى، بدل أن يطمئن داخل منظومة تحميه.
• • •
ما علينا، دعونا نعود للغة وما تضعه بين أيدينا من إمكانيات: نكسر الخاطر أو نجبره، يرقص القلب فرحا أو ينطفئ، الفرح عامر فى البيوت أو ثمة دعوة لخراب البيت، كيف نفسر فى لغة أجنبية أن أحدنا يدعو إلى خراب بيت؟ ما هو خراب البيت فى بلاد الزواج والطلاق فيها تحكمه قوانين واضحة تحفظ الحقوق للطرفين وربما تحفظها أكثر للمرأة؟ بينما فى البلاد الناطقة باللغة العربية يكرم الله والأنبياء الزوجة والأم والأخت غير المتزوجة لكن لا ينصفها قانون الأحوال المدنية! مفهوم خراب البيوت أصلا يعتمد على أولوية الحفاظ على الزواج حتى لو كان تعيسا، أفضل من الخراب. حسنا، قد نتفق أو نختلف. لنعد إلى اللغة بعيدا أيضا عن مفهومنا وفهمنا لمؤسسة الزواج فهذا النقاش مثير للجدل.
• • •
يستخدم الكثير من السوريين عبارة «قبل الشحاذة وبنتها» تعبيرا عن الصباح الباكر. أستخدم أنا نفسى هذه العبارة حين أقول إننا بدأنا يومنا قبل الفجر. حاولت أن أشرح العبارة لصديقة أوروبية فرأيتنى أحاول أن أخلق عندها مادة بصرية لطالما وجدتها فى شوارع دمشق وبيروت والقاهرة وغيرها لكن صديقتى سألت لماذا لا تذهب ابنة الشحاذة إلى المدرسة بينما تعمل أمها على اجتذاب المارة واستعطافهم. أعترف أننى لم أفكر بالتحاق هذه الطفلة بالمدرسة من قبل حين كنت أستخدم العبارة، بينما استغربت صديقتى الأوروبية وجود طفلة بعمر المدرسة فى الشارع حيث يجبر القانون فى بلد صديقتى الطفلة على الوجود فى المدرسة بغض النظر عن خلفيتها الاجتماعية.
• • •
أنا متأكدة أن كثيرا من المصطلحات لم تعد متداولة فى بلاد تقدمت فيها القوانين التى تحمى الأفراد من التمييز ومن الاستغلال. لم يعد من المقبول استخدام أمثال دارجة تصف أشخاصا بحسب لونهم أو شكلهم أو حاجة خاصة فى أجسادهم أو عقولهم. تم تنظيف اللغات (إن صح التعبير) من مصطلحات لا تتسق مع معايير قانونية تحمى الفرد ضد التمييز والتنمر. بات من الصعب، خصوصا بين صفوف الشباب، تقبل كلمات تشجع على التنميط على أساس بلد المنشأ أو الفئات المجتمعية أو النوع الاجتماعى (ذكر أو أنثى).
• • •
أفكر كثيرا باللغة العربية وما يمكن أن تؤول إليه إن تم تنقيتها من طبقات وطبقات من التمييز. أفكر بإمكانية المجتمعات الناطقة بالعربية أن تتمسك بكلمات لا يمكن ترجمتها وهى شديدة الجمال، «الفرح عامر فى دياركم» بينما تتخلص من تلك التى تكرس أسوأ ما فى بلادنا. هل من طريقة نرمى بها فى البحر عاداتنا الطبقية والعنصرية داخل المجتمع ونبقى فيها على دفء العلاقات وصدق المشاعر وعمق الصداقات؟ «على راسى»، كيف أترجمها؟ «تعيش وتفتكر» أن تتذكر من تحب، «عقبى للمائة» أن تعيش طويلا، «طل القمر» لقاء بعد طول غياب وغيرها.
• • •
هكذا إذا، لنستمر بجبر الخواطر طالما يكسرها محيطنا السياسى والاجتماعى، ولنحاول أن نتمسك بجمال اللغة وذلك الوقت الذى ما زال بين أيدينا فى بلاد نتوقف فيها عند صديقة أو قريبة دون موعد لنشرب القهوة ونسأل عن أخبار الناس. أظن أن أغلى ما نملك فى بلادنا التعيسة هى تلك الدقائق المسروقة مع أشخاص لم يغيروا عناوينهم منذ عقود وما زالوا فى بيوتهم التى نعرف الطريق إليها دون أن نتوه. ندق على الباب فنسمع صوتا نعرفه يقول «يا دى النور، أهلا وسهلا، نورتونا».
كاتبة سورية