قد يكون هذا مقالى الأخير عن سوريا وأنا بعيدة وشاعرة بالفقدان. كنت قد توقفت عن الكتابة منذ قرابة السنة لعدم قدرتى على التكرار، وعلى جر القراء معى إلى منابع الحزن الذى حملته فى قلبى بينما اشتدت الحرب وسفكت الدماء فى بلدى. توقفت عن الكتابة حين شعرت بأنه لم يعد لدى ما أقوله فى وصف بعدى، ولم أعد أستطيع أن أحكى عن كل ما كان. وقتها قررت أننى سأتوقف عن استحضار الروائح والنكهات بعد أن سمحت لى جريدة الشروق مشكورة أن أفتح صندوق ذكرياتى كله على صفحاتها. وكان للبوح أثر ساحر على على مدى ثمانى سنوات.
• • •
ها نحن السوريون فى يومنا الجديد نفتح شبابيك بيوتنا وقلوبنا لتدخلها الشمس. ننفض الغبار عن أرواحنا ونلملم ما تبعثر من أحاسيسنا خلال الأسبوع الأخير استعدادًا للملمة بلدنا وطمأنة سوريا أنها لجميع السوريين. نطوى صفحات دامية ونقرر معًا أننا لن نسمح بتكرارها قط.
• • •
سعادتنا جماعية وكذلك قلقنا. فرحنا صادق كما هو ترقبنا حقيقى. الخوف من هول ما نكتشفه يوازى فرحنا بما أنجزناه. وقد علمتنا سنوات الثورة والحرب أن كل شىء ممكن، الصداقات الجديدة العابرة للمناطق والأجيال والخلفيات، العداوات التى خسفت بعلاقات ظننا يوما أنها متينة. تعلمنا خلال حربنا أيضًا أن الكرم قد يظهر من داخل خيمة اللجوء ورغم الفقر، إذ قد تعطيك ست البيت، أو ست الخيمة، آخر ما تملكه من القهوة، وهى ترحب بك وتعتذر أن المكان ليس من مقامك. كما رأينا أن دناءة النفس قد تصدر من أكثر من ظنناهم يوما أكارم، فالبخل ليس بالمال إنما بالنفس.
• • •
أصدقائى ممن تحملتمونى، اليوم، أريد أن أرد الجميل، فقد اتكأت عليكم سواء فى الحياة الحقيقية أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعى، وقد وجدت كمًا هائلًا من الدعم والدفء. أظن أن دفء أصدقائى كان لحاف قلبى حين شعر بالبرد، وصفحات هذه الجريدة كانت ملاذى حين كنت أحتاج إلى البوح، كما تحول الفضاء الافتراضى إلى زيارات أخذت فيها الأصدقاء إلى سوريا دون أن أذهب إليها بنفسى.
• • •
ممنونة أنا لكل من قرأ واستمع بصبر إلى قصصى وابتسم دون تعليق على تعصبى تجاه المطبخ السورى وإصرارى على الاحتفاظ بعادات اجتماعية ربما لم تكن تتماشى مع البلاد التى عشت فيها منذ بدأت الحرب فى سوريا، إذ أصبحت أكثر تعنتًا ومحافظة على ما قررت أنه ثوابت رغم قدمها بسبب البعد.
• • •
اليوم أريد أن أفتح باب بيتى فى دمشق لمن فتحوا لى قلوبهم وبيوتهم وسألونى بصدق عن بلدى. اليوم أريد أن أعود وأصدقائى ممن لم يزوروا سوريا من قبل أو وزاروها قبل أن أعرفهم. أريدكم جميعًا فى بيت عائلتى الكبير نعيد إليه الحياة، فتتحرك أمى بين المطبخ وصالة الاستقبال وتنهرنا، أبى وأنا، لأننا منشغلون بغير التحضير لقدوم الضيوف.
• • •
أريد أن أضع الكراسى قرب شجرة النارنج فى الحديقة، أظن لا داعى للخوض فى موضوع هوسى بمربى النارنج.. أليس كذلك؟
• • •
بيتى اليوم هو بيت كل صديق وصديقة ربت على روحى فى السنوات الماضية، هو بيت يريد أن يرد بعض ما حصلت عليه من حب فى بيوت أخرى حين كان قلبى يتفتت من شوقى لسوريا. هذه رسالة لكل من نسجت معه صداقة فى السنوات الأخيرة دامت حتى اليوم: امتنانى عميق إذ اكتشفت أن الدفء الإنسانى دواء لأكثر من داء، واليد التى كانت تمسك بيدى لطالما سحبتنى من عمق السواد.
• • •
اليوم سوريا تفتح أبوابها ولن تنظر إلى الوراء، سوى لنحلف معا أننا لن نكرر ما حدث. لن نسمح بما يتوقعه البعض، لن نرد على من يبتسم ابتسامة صفراء محذرًا أننا لن ننجح. الطريق أمامنا طويل وخطر، ونحن لسنا من السذاجة أن نقتنع بأننا سننتقل بسلاسة كاملة تناسب الجميع. السياسة حلبة صراع دوما، نريدها ألا تكون دموية. سنتعلم معنى التعايش دون رعب، سننبذ خطاب الكراهية والتمييز، سنلفظ عادات فاسدة نخرت جوهر صناعة الدولة والعلاقات الاجتماعية.
• • •
الطريق هش وصعب، لكن أظننا كسوريين متفقين على أننا دفعنا سلفًا بدمائنا، ربما كقربان لعهد جديد نجتمع فيه على مسلمات لن نتنازل عنها. بلد يضمنا ضمن الحد الأدنى من الاتفاق، هكذا بواقعية، إذ قد يكون أكبر درس نتعلمه هو أننا مختلفون ومتعددون ولا يجب حشرنا جميعًا فى الزى الموحد والفكر الموحد.
• • •
اليوم أريد أن أرد الدّين لكل من فتح لى قلبه وبيته وعقله، وأرحب بأصدقائى فى بيتى فى الشام، اليوم بيتى هو بيتكم، كما جعلتم من بيوتكم بيتى.
• • •
تجو معى عالشام؟