نشر موقع 180 مقالا للكاتب خليل حرب، تحدث فيه عن زيارة البابا فرانسيس للعراق المنكوب، مشبها زيارة البابا بزيارة القديس فرانسيس الأسيزى قبل 800 عام إلى مصر أثناء الحروب الصليبية للقاء ملكها الأيوبى آنذاك.. جاء فيه ما يلى.من حق الجميع فى العراق أن يكون سعيدا بمجيء البابا فرانسيس. مجرد قدومه يضفى خبرا سعيدا على بلاد لم تعد سعيدة، أقله فى ذاكرتنا الحديثة منذ ثمانينيات القرن العشرين حتى يومنا هذا.
ولعل آخر الأخبار السعيدة نسبيا التى سمعها العراقيون عندما تشكلت حكومة جديدة فى مايو الماضى، بعد فراغ استمر شهورا. ومذاك، ولا يمر يوم من دون أن تتوالى أخبار الموت والإرهاب والوباء والدولار. ولهذا، فإن وصول البابا إلى العراق، مهما تباينت الآراء حول زيارته، تظل بارقة تفاؤل تروى العطش للأمل بالنسبة لكثيرين.
ومع ذلك، فإن الزيارة بحد ذاتها، ليست خلاصا للعراق الثائر على درب الجلجلة الأبدية، فيما يأمل البابا من خلال الصلاة والدعاء، مساعدة العراقيين على طى صفحة الآلام اللا متناهية، لكنه لن يكون أكثر وضوحا من «مجنون» البيت الأبيض الذى حاول إيقاف «الحروب اللا متناهية»، ولم ينجح.
وإذا يتحدى الحبر الأعظم، بفعلته هذه، الأقدار العراقية البائسة التى تحتاج معجزة إلهية فى زمن نضبت فيه المعجزات، فإنه سيكون سعيدا بالمقارنة التى أجراها البعض بينه وبين القديس فرانسيس الأسيزى قبل 800 عام، الذى سار على طريق الحوار فى عز الحروب الصليبية وجاء إلى مصر للقاء ملكها الأيوبى.
لكن الحقيقة المُرة أن الحروب الصليبية استمرت طوال 80 سنة بعد زيارة القديس الأسيزى التصالحية، لأن قرقعة السيوف والرءوس الحامية طغت وقتها على صوت هذا العاقل اليتيم.
***
لم يعد صدام حسين هنا، ولا چورچ بوش الأب والابن، ولا «الروح» السوداء الذى صور كقديس، باراك أوباما، ولا دونالد ترامب الذى أفصح عن تململه من العراق. «الدولة العميقة» هى التى لعبت دور الرءوس «الصليبية الحامية»، وأجهضت، باسم مستلزمات الصراع الأمريكى الإقليمى، مسعاه للخروج من العراق وسوريا.
ولم تعد وسائل الإعلام الغربية، وحتى المرتبطة بمؤسسات دينية سواء فاتيكانية أو كاثوليكية أو غيرهما، تجد حرجا فى الإدلاء بمواقف لم يكن ممكنا أن نسمعها منها من قبل على شاكلة أن مسيحيى العراق كانوا أفضل حالا بكثير فى عهد «النظام البعثى». ليس سهلا ــ وإن كان مفجعا ــ أن يتم منح «النظام البائد» صك براءة ولو يتيما فى ملف واحد طالما أن غزو العام 2003، قد صار خلفنا، وكان الذى كان.
وفيما علينا نحن، كمواطنين وشعوب هذا الشرق فى بلاد الرافدين والشام، أن نتعايش مع انقلاب الروايات والحقائق، بحسب راويها الغربى، فإن الحقيقة الساطعة التى يريد كثيرون، بمن فيهم البابا نفسه، قولها، إن الغزو وما تلاه، هو ما أنزل هذه الفاجعة بمسيحيى العراق منذ 18 سنة حتى الآن.
ولهذا، فإن البابا فرانسيس ما لم يسم الأشياء بأسمائها، كأن يقول مثلا بأن السكين الذى غرزه بالتتابع بوش الأب، ثم كلينتون، ثم بوش الابن، ثم أوباما وترامب وبايدن، هو احتلال يجب أن ينجلى عن أنفاس العراقيين، مسيحيين ومسلمين، سنة وشيعة، وكلدانيين وصابئة ومندائيين وأرمن وأيزيديين وآشوريين وعرب وكرد وفيليين، لعل خلاص العراق وقيامته، تكتب أخيرا. وما لم يفعل ذلك، فإنه يبقى زيارته، وهى الأولى من نوعها لرأس الفاتيكان إلى العراق، مقيدة فى إطارها الروحى أو ربما الفلوكلورى.
***
وهناك علامة استفهام محيرة فى ماضى البابا فرانسيس جرى طيها تدريجيا مع صعوده منذ سنوات طويلة فى العمل الكهنوتى، حيث تعرض إلى انتقادات لعدم مجاهرته فى العداء للدكتاتورية العسكرية التى حكمت الأرچنتين، ونكلت بمعارضيها السياسيين، بمن فى ذلك القساوسة المناضلون.
ومع ذلك، فإن هذا الزائر شجاع بلا شك، وهو يحقق حلما لطالما راود باباوات الفاتيكان الذين سبقوه، بأن تطأ أقدامهم الأرض التى شهدت ولادة النبى ابراهيم، كانت مهد المسيحية والديانات السماوية فيأتيها البابا فرانسيس الآن، متجاهلا عفاريت الشر التى تحيط به، من فلول داعشية عاودت الظهور بقوة فى يوميات العراقيين، إلى فيروسات كورونا التى بسببها لم يخرج البابا من الفاتيكان مسافرا منذ أواخر العام 2019.
ويجيء البابا فرانسيس مدركا أن البابا الأسبق يوحنا بوليس الثانى جرب فى العام 1999 زيارة العراق، لكن حكومات حصار العراق وظروفه، منعته، فيما كان ملايين الأطفال والنساء والرجال العراقيين يتصارعون مع الجوع والمرض والعوز الذى جعل أكاديميا عراقيا بارزا يجوب بيروت بحثا عن أقلام رصاص! لكن لا السماء أسعفت العراقيين.. ولا بابا الفاتيكان جاء.
لكن الحق يقال بأن الفاتيكان رفع الصوت عاليا ضد غزو العراق وكأن البابا يوحنا بوليس الثانى كان يدرك، من بين قلة فى العالم، أن حرب «حرية العراق» الموعودة، لن تجلب سوى عاصفة المجازر الجماعية للمسيحيين و«إخوتهم» فى الإنسانية فى بلاد ما بين النهرين.
ها هو البابا آتيا على أمل أن يتوقف إحصاء الجثث ويبارك أرواحهم سواء فى كنيسة سيدة النجاة المنكوبة بمجزرة فى بغداد، أو فى سهول نينوى المكلومة بمقابر داعش الجماعية. سيصلى البابا من أجل طى صفحة الموت المفتوحة، التى شرعت الأبواب، فيما الفاتيكان عاجز منذ سنوات، أمام التهليل الجماعى للمسيحيين وغيرهم من الأقليات فى العراق وسوريا.
سيقول البابا، ولو متأخرا، للعراقيين، إنهم يستحقون خبرا جميلا وإن كان يتيما، وأن أمله بأن أبى مصعب الزرقاوى وأبى بكر البغدادى وأبى ياسر العيساوى، ليسوا قدرا. وسيقول للمسيحيين أن يتشبثوا بالأرض ولا ينسلخوا عن مجتمعاتهم. وبالمناسبة، كيف يفسر غياب البطريرك المارونى الكاردينال مار بشارة الراعى عن زيارة البابا فرانسيس، والأهم أين هو من رؤية الفاتيكان البعيدة للمسيحيين ومصيرهم فى المنطقة برمتها؟
النص الأصلى