نشر موقع 180 مقالا بتاريخ 4 أبريل 2022 للكاتب سليمان مراد، تناول فيه الدور الكبير الذى قام به الأخوان رحبانى وفيروز للترويج للهوية اللبنانية وإعطائها بعدا عربيا. كما أشار الكاتب إلى أن لكل هوية أسطورة إلا أن الطبقة السياسية اللبنانية الحالية فشلت فى إيجادها فدفعت الشعب اللبنانى نحو أساطيره الطائفية.. نعرض من المقال ما يلى.
للرحابنة عاصى ومنصور وفيروز دور كبير فى الترويج للهويّة اللبنانيّة فى خمسينيات وستّينيات القرن الماضى، من خلال نتاجهم الفنى، مسرحا ولحنا وفيلما وأغنية. نتاج نهضوى أشعل مشاعر الاعتزاز بالهوية الوطنية اللبنانية.
فى تلك الفترة، واجه لبنان تحديات كبيرة بفعل صراعات واصطفافات إقليميّة (مرحلة ما بعد الاستقلال اللبنانى، ولادة القضيّة الفلسطينيّة، العدوان الثلاثى، حلف بغداد، الوحدة بين مصر وسوريا، حرب الـ 1967، إلخ..). انعكست هذه الصراعات على الشعب اللبنانى وعمّقت الخلافات بينه. فكانت أحداث العام 1958، الانقلاب الفاشل للحزب القومى فى العام 1961 واتفاق القاهرة 1969 واشتباكات الجيش مع الفدائيين وغيرها من المقدمات التى أدّت إلى الحرب الأهلية فى العام 1975.
يمكن القول إنّ الأخوين رحبانى وفيروز ساعدوا فى «التغطية» على هذه المشاكل عبر إلهاء الشعب اللبنانى عن خلافاته العميقة وجذبه إلى لبنان ــ الأصح جبل لبنان ــ الأسطورة. هم أصروا على الزمن الجميل وتجاوز الانقسامات الأهلية، ولا شك أنّ الممسكين بالنظام السياسى اللبنانى، ولا سيما أهل المارونيّة السياسيّة، نجحوا فى استخدام الإرث الرحبانى ليس من أجل أن يكون لبنان وطنا لكلّ أبنائه، كما حلم الرحابنة، بل لجعله على صورتهم المشتهاة. النزعة اللبنانوية أو الجبل لبنانية عند الرحابنة لم تكن انعزالية، بل لامست البعد العروبى، بما فى ذلك قضيّة فلسطين. وهذا يدلّ على أنّ مفهوم الهويّة الوطنية كان جزءا من هوية قومية أشمل.
لنأخذ مثلا أغنية «ردّنى إلى بلادى» (من تأليف سعيد عقل وتلحين الأخوين رحبانى)، هل هناك من لبنانى على وجه الأرض لم تدمع عيناه عندما يسمع صوت فيروز يصدح بكلماتها؟ ومع أنّها أغنيّة لبنانيّة بامتياز، أصبحت أيضا أغنيةً عروبيّةً بامتياز انتشرت فى العالم العربى وزادت من شعبيّة الأغنية الرحبانية لأنّها خاطبت مشاعر الكثير من العرب. فأصبح الشخص المصرى يسمعها لتردّه إلى مصر، والسورى إلى سوريا، والجزائرى إلى الجزائر.
كل هويّة بحاجة إلى أسطورة. يمكن أن نزيد على ذلك ونقول إنّ الأسطورة فى بعض الحالات هى كالصمغ الذى من دونه لا يمكن جمع مكوّنات البلد إلى بعضها البعض. لكن الأسطورة وحدها لا تنتج بلدا. هناك عوامل أخرى لا بد أن تتوفّر لكى تفعل الأسطورة فعلها وتنجح فى جمع هويّات الناس المختلفة فى هويّة مشتركة يتقبّلونها، أهمّها أنّه يجب أن يجدوا أنفسهم فيها. وهناك أيضا ضرورة أن تتوفّر نافذة زمنيّة مؤاتيّة لكى تخلق استعدادا شعبيّا لذلك.
فى لبنان، عندما كانت هناك نافذة مؤاتيّة، لم نتمكن من اختيار الأسطورة المناسبة. الأسطورة التى فُرضت علينا عند إنشاء دولة لبنان الكبير فى سنة 1920 كانت رديئة وفُصّلت على قياس المارونيّة السياسيّة تحديدا. بُنيت هذه الأسطورة عبر إسقاط تاريخ جبل لبنان على هذا الكيان الجديد وتأصيل جذوره فى عالم غريب لا يعرفه اللبنانى لا من قريب ولا من بعيد، أعنى تحديدا هنا البعد الفينيقى للأسطورة اللبنانيّة. فكانت النتيجة تجاهل تاريخ وهويّة أكثر من نصف سكّان لبنان كونهم لم ينتموا سابقا إلى جبل لبنان ببعده المارونى. إذا، تمّ تجاهل وتهميش تاريخ وهويّة الأكثريّة العدديّة، وأصبح دخولهم فى البلد الجديد متوقّفا على تقبّلهم أسطورة جبل لبنان والفينيقيّين كما أرادتها المارونيّة السياسيّة.
عبقريّة الرحابنة أنّهم أدركوا ضرورة الأسطورة فى تكوين الهوية، فحاولوا تعديل الأسطورة المارونيّة من أجل إدخال الآخرين فيها وإعطائها بعدا عربيا. إذا، المشكلة (كما أخبرنا زياد الرحبانى فى مسرحيّاته) ليست بما أنتج الرحابنة بمساهمة رواد لبنانيين أمثال وديع الصافى، صباح، نصرى شمس الدين، فيلمون وهبة وزكى ناصيف. المشكلة هى فى الطبقة السياسيّة التى لم تتلقّف هكذا فرصة، وأبقت على الأسطورة المارونيّة. فبقى الشعور والاعتزاز بالهوية اللبنانيّة على سطحيّته وتمّ تهجينه طائفيّا.
نعم، فشلت الطبقة السياسيّة فى تحويل لبنان من كشكول طائفى إلى وطن. نسيوا أنّه من دون الأسطورة لا تقوم الأوطان، وإذا قامت لا تستمرّ. العجز عن إيجاد أسطورة جامعة دفع الشعب اللبنانى إلى أساطيره الطائفية. فقويت وتجذّرت الطائفيّة فيهم أكثر وأعمق من أى وقت مضى، وتقوقع معظم الناس داخل طوائفهم طمعا ببعض المكتسبات، ولو كان ثمن ذلك تدميرا لوطنهم.
المشاكل التى يمرّ بها لبنان منذ أكتوبر 2019 يمكن ترقيعها مع بعض الإصلاحات الاقتصادية والسياسيّة. لكن من المستحيل حلّها من دون أسطورة وطنيّة جديدة جامعة. ومن المستحيل أن ننشدها من الطبقة السياسيّة الحاليّة. فلا يبقى لنا إلاّ أن نُردّد «وا عاصياه، وا منصوراه، وا فيروزاه»، لعلّهم يأتون لنجدتنا.
النص الأصلي