«محامون بلا قيود»! هكذا تدعى جماعة المحامين التى تقدمت ببلاغ إلى النائب العام مطالبة بمصادرة طبعة «ألف ليلة وليلة» الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ضمن سلسلة «الذخائر». ما أغرب المفارقة بين الاسم والفعل! كان الأجدر أن تدعى «محامون بلا حريات»، أو «محامو القيود»، أو «محامو المصادرات» أو محامو التكبيل، والمنع، والحظر، والرقابة، والحذف، والشطب، والمحو.. إلخ، فأى من هذه التسميات المقترحة أنسب لرسالتهم، وأوفق لمبتغاهم.
لم أرَ نص البلاغ، ولكن فيما نشرت الصحف أن البلاغ مقدم بدعوى أن العمل يتضمن «عبارات وصورا خادشة للحياء».
إن كانت هذه هى الدعوى، فإنى أرى أن السادة المحامين تسرعوا فى تقديم البلاغ، وقصروا فى جهود فرض القيود وحماية الحياء العام.
كان عليهم أن يطيلوا قائمتهم أكثر من ذلك بكثير، فيعودوا إلى الوراء فى الزمن بما يسبق «ألف ليلة» بقرون كثيرة، ثم يمضون قدما متجاوزين زمنها بقرون أيضا كثيرة حتى يصلوا إلى عصرنا الحاضر. بل ربما شاءوا أن يسبقوا الزمن فيصادروا الأعمال قيد الميلاد، والتى هى لا شك آتية، ولا شك ستكون «خادشة للحياء» بمعاييرهم التى لا ندرى تفاصيلها وما تستند إليه، ولكن نرى نتائجها فى دعواهم.
لو أنهم ترووا فى الأمر، لهالهم حجم ما يجب أن يصادر، ولهالهم خلو الطبع البشرى والنتاج الأدبى والفكرى والدينى من «الحياء». كانت قائمتهم ستشمل قطاعات هائلة من الشعر العربى فى كل عصوره من امرئ القيس فصاعدا. وكان الجاحظ، أعظم ناثرى اللغة العربية إطلاقا، حريا أن يكون فى صدر تضرعاتهم إلى النائب العام.
وأما «العهد القديم» من «الكتاب المقدس» فما كان ليبقى على الرفوف فى المكتبات أو دور العبادة ساعة واحدة. ناهيك عن كتب الحديث والتفسير والفقه، فهذه أيضا لن يرحم مقص الرقيب الكثير الكثير من نصوصها. أما فى زمننا هذا، فإلى المقصلة يساق فى غير تردد، نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وإحسان عبدالقدوس، وجمال الغيطانى، وحنان الشيخ، وأهداف سويف، ومحمد شكرى... والقائمة تستعصى على الحصر.
هذا ونحن نتكلم فى نطاق الأدب العربى وحده. غير أن القيود يجب أن تكون بغير حدود، والحياء يجب أن يصان من الخدوش، أيا ما كان مصدرها. فالآداب الأجنبية (أم أن تسميتها «بالآداب» مفارقة؟) حافلة بما تنبو عنه النفس الحيية. وهى لسوء الطالع الكثير منها مترجم إلى العربية. وللمزيد من سوء الطالع، الكثير من مترجميها يصطنعون الأمانة العلمية، ضاربين بعرض الحائط الأصول الأخلاقية، مخلصين فى نقلهم النصوص الأجنبية، مترفعين عن العبث بالقواعد المرعية، فى الترجمات الأدبية.
إلى القائمة إذن يضاف (وليسامحنا النائب العام، فأمامه أعوام وأعوام، من القراءة المتأنية، فى تلال متصاعدة، من الكتب الجديدة والتالدة، العربية والمعجمة) ــ إلى القائمة يضاف، وفى المحرقة يلقى فى غير إحجام ولا تردد، شكسبير بمسرحياته الثلاثين والست، ومن قبله ومن غير تروٍ تشوسر وحكاياته الكنتربرية، ومعهما رائد الرينسانس وأبوالقصة النثرية فى البلاد الأوروبية، بوكاتشو صاحب «الديكاميرون»، الذى كان يصوغ قصصه ربما فى نفس الوقت الذى كانت المخيلة الشعبية فى البلاد الشرقية تصوغ حكايات «ألف ليلة»، ذلك العمل «المجرم» الواقف اليوم فى قفص الاتهام، قيد الإدانة بإراقة دم الأخلاق.
ولكنى أرى أننا فى تعجلنا، كدنا ننسى الإغريق والرومان، ويا هول ما فى أساطيرهم وأشعارهم مما تندى له الجباه! فإذا ما وصلنا إلى العصر الحديث، فماذا نصنع بفلوبير، وأى نائب عام بمقدوره أن يفى جميز جويس نصيبه من الاتهام والادعاء؟ وأى قاض يجد فى أحكامه ما يردع أمثال دى. إتش. لورانس، وهنرى ميلر؟ وأى محام بقيود أو بدون قيود تطاوعه نفسه أن يضطلع عنهم بالدفاع؟
ولكن فلنتمهل! كدنا ننسى. ماذا السادة المحامون فاعلون بالفنون المرئية، وهى فى خدش الحياء أفعل من النصوص المقروءة؟ بل إنها فى فعلها لا ينجو منها حتى الأميون، الذين لا يقرأون ولا يكتبون. هلم إلى المعاول والفئوس! فلنهرع إلى معابد الفراعين ومدافنهم، إلى المتاحف والمعارض، فكم «البذاءات» هناك لا يحصى. يا حضرة النائب العام، سجل. تراث مصر القديم، وبابل وآشور، واليونان وبلاد الروم، وكذا بلاد الهند والسند، كله من التهذيب خال، وعن الحياء عار. اهدم. قوض. اردم. ادفن. ولنبعث المراسيل، ونسق الدبلوماسيين والسياسيين، إلى بابا الكاثوليك، عله يقبل شفاعتنا فى محو رسوم مايكل أنجلو من سقف السستين.
رباه! ما أعتى الجهد! ما أشد العناء! ما أضل البشر من كل جنس وفى كل عصر! وما أهون «ألف ليلة وليلة» وسط كل هذه الشرور والآثام. إن التهلكة لتحيق بنا من كل جانب. وإننا لضائعون، اعتمد النائب العام بلاغنا أو لم يعتمده. دفع به إلى القضاء أو لم يدفع. حكم لنا القاضى أو لم يحكم. تخاطف الناس «ألف ليلة» أو نبذوها نبذا.
ما هو الحياء؟ وكيف يخدش؟ وحياء من هو؟ حياء السادة المحامين؟ حياء الكبار؟ الصغار؟ الرجال؟ النساء؟ البالغون؟ القصر؟ المجتمع كله؟ قطاعات من المجتمع؟ المتعلمون؟ غير المتعلمين؟ ومن الذى أقام السادة المحامين متحدثا باسم المجتمع؟ إن كان حياؤهم يخدش من قراءة «ألف ليلة» فلماذا لا يلقون بها جانبا؟ لماذا لايمنعونها عن ذويهم ويتركون لباقى الناس أن يروا فيها ما يرون؟ بأى حق تفرض فئة من الناس تحفظاتها على بقية الناس؟
إن كان البعض لا يرى فى «ألف ليلة» إلا ما يخدش الحياء، فإن طه حسين رأى فيها قصته «أحلام شهرزاد»، وتوفيق الحكيم رأى فيها مسرحيته «شهرزاد» وألفريد فرج رأى فيها «حلاق بغداد» و«على جناح التبريزى وتابعه قفة»، ونجيب محفوظ رأى فيها «ليالى ألف ليلة»، والقائمة تطول. كل هؤلاء وغيرهم رأوا فيها مجازات لا تحصى للحال البشرى.
وأما عن أثرها فى الآداب الأوروبية للكبار والصغار، فحدث ولا حرج منذ ترجمت لأول مرة إلى اللغة الفرنسية على يد المستشرق أنطوان غالاند (1646ــ 1715) فى أوائل القرن الثامن عشر. إن «ألف ليلة» ينظر إليها فى العالم قاطبة باعتبارها واحدة من أعظم نتاجات القريحة البشرية.
ولو كانت أثرا محسوسا، لكانت أدرجت على أخص قوائم هيئة اليونسكو ضمن أنفس آثار الإنسانية التى يبذل الرخيص والغالى فى الحفاظ عليها. وإن ترجماتها إلى لغات العالم من عصر لعصر لتترى. وما كتب فيها من دراسات وأطروحات جامعية، وما يلقى فيها من محاضرات فى قاعات الدرس فى الجامعات العالمية كل يوم لفوق أن يدركه الحصر.
أفمثل هذا الأثر يعبث به؟ أفمثل هذا الأثر نتطاول عليه بالحذف والبتر؟ خلاصة التجربة البشرية الهابطة إلينا من عصر إلى عصر، الحكمة الشعبية، والخيال المنعتق من كل أسر، نتجاسر عليها نحن «المحامون بلا قيود» بزعم الحياء المخدوش؟ متى نكبر؟ متى نبلغ سن الرشد؟ متى نتجاوز مرحلة المراهقة؟ فى أى سن نأخذ أنفسنا بجدية؟ أى عصر ننتظر حتى لا نعود نعتبر أنفسنا قاصرين؟ متى نستطيع أن نتكلم على الجسد البشرى بكل أجزائه بدون حياء زائف؟ متى نستطيع أن نتكلم عن السلوك الجنسى البشرى بدون احمرار وجه، أو غض طرف، أو ضحكة نزقة؟ ليس فى الجسم البشرى ولا فى أفعاله، بما فيها الأفعال الجنسية، ولا فى اللغة التى تصفه وتصف أفعاله، ما لا يجوز الحكى فيه، قولا أو كتابة. وتماما كما نطرح عنا كل حياء حين نذهب إلى الطبيب فنكشف له عن أجسادنا، ونحكى له عن أدق مشاكلها ووظائف أعضائها، كذلك يكون الأمر فى الأدب والعلم والفن.
الكلمات كائنات وصفية وليست كائنات أخلاقية. ما الذى يجعل كلمة فى تسمية جزء من الجسد البشرى، أو فى وصف فعل بشرى، مقبولة قولا وطباعة، بينما يجعل مرادفا لها فى تسمية نفس الجزء، أو نفس الفعل، عيبا «يخدش الحياء»؟ منطقيا لا شىء. الكلمة كلمة. وإنما هو الإسقاط الاجتماعى، والطبقى، والتعليمى، وتغير الاستعمال من عصر إلى عصر، وتغير الحساسيات الاجتماعية إلخ. وهذا هو السياق الذى يجب أن نفهم فيه ما يسمى بالعبارات الخادشة للحياء فى «ألف ليلة». «ألف ليلة» أدب شعبى، مكتوب بلغة تراوح بين العامية والفصحى البسيطة. ليست لغة تنميق وتهذيب وصقل وصناعة.
ليست لغة القصور وديوان الرسائل والخطباء والمتزلفين إلى الملوك والأمراء. إنما هى لغة الناس البسطاء فى التعبير، وإن لم ينقصهم الخيال الخصب والحكمة المكتسبة من الحياة. والناس البسطاء لا يستخدمون المجاز فى الكلام، ولا يشقون على أنفسهم فى البحث عن اللفظة «المهذبة»، وإنما يجبهونك باللفظة الحية المباشرة، وإن ثقلت على أذنك المرهفة. هكذا فى كل الأزمان وكل الحضارات.
لغة «ألف ليلة» إذن هى لغتها الطبيعية. هى اللغة التى تميزها عن غيرها من الأدب الرسمى، أو أدب اللغة الفصيحة، والطبقة المتعلمة، المصقولة. وأى عبث بهذه اللغة بالتحوير أو التهذيب، ناهيك عن الحذف، يغير من طبيعة «ألف ليلة». والألفاظ «المذنبة» فيها هى جزء لا يتجزأ من تلك اللغة. كما أن ما قد يراه البعض على أنه «فجاجة» جنسية فى بعض المواضع هو جزء من طبيعة هذا الأدب الشعبى وتعامله المباشر مع النوازع الطبيعية فى السلوك البشرى، وخاصة السلوك الجنسى.
الخلاصة هى أن «ألف ليلة» هى «ألف ليلة» كما وصلتنا عبر العصور، لا نستطيع أن ننكرها لأنها من أعظم مفاخر تراثنا، ولأنها صارت فوق ذلك من تراث الإنسانية جمعاء. ولا نستطيع أن نغير منها شيئا، إن حذفا أو إضافة أو تهذيبا، لأنها نص تقدس بالزمان، وتقدس بكونه ما هو عليه. نستطيع أن نقرأه إن أحببناه، أو ندعه جانبا إن لم يناسب ذوقنا. هو كائن حى، مستقل عنا، سابق علينا، وباق بعدنا. وهكذا كل نص أدبى عظيم.
فى القرن التاسع عشر، فيما يعرف بالعصر الفيكتورى فى التاريخ الإنجليزى ــ وكان عصر تزمت وتكلف أخلاقى ــ كان الإنجليز يمنعون أطفالهم وخاصة البنات من قراءة شكسبير، إلا فى طبعات خاصة، مهذبة، مخافة على «حيائهم». إلا أن هذا كان يحدث بدون المساس بالطبعات الأصلية الكاملة التى كانت متوفرة للكبار طوال الوقت. فى ذلك العصر قام أحد المستشرقين، ريتشارد فرانسيس برتون (1821 ــ 1890)، بترجمة «ألف ليلة» إلى الإنجليزية ترجمة كاملة «غير مهذبة»، أثارت الحفائظ آنئذ. ليس تحفظ «المحامون بلا قيود» إذن أمرا غير مسبوق.
إلا أننا لم نعد فى القرن التاسع عشر، وإنما نحن الآن ــ فيما أظن ــ فى القرن الحادى والعشرين. ثم إن أحدا لم يمنع نشر ترجمة برتون، ولا أخذه إلى النائب العام، إلى جانب أنه كان ثمة مستشرق إنجليزى آخر، إدوارد لين (1801 ــ 1876)، أقرب إلى ذائقة «المحامون»، كان قد سبق برتون بسنوات فى ترجمة «ألف ليلة» مع حذف العناصر «غير الأخلاقية» منها، وهو بعينه السبب الذى دفع برتون إلى إعادة ترجمتها بلا تهذيب.
لا مانع إذن أن تكون هناك نسخة «مهذبة» لصغار السن، ولمن شاء من غير صغار السن، على أن يعلن ذلك على غلافها. ولكن ليس لأحد أن «يصادر» نصا تاريخيا، أو أن يحرفه. وليس لأحد أن يصادر حرية القراءة، وحرية الطبع والنشر، وحرية الناس فى أن يقرروا لأنفسهم ما يخدش حياءهم وما لا يخدشه. ليس لأحد أن يصادر حرية الناس فى الرشد والنضج والبلوغ.