أى قراءة سريعة للمشهد السياسى ــ الاجتماعى الراهن فى بلادنا، ستكشف بوضوح أننا نبتعد رويدا رويدا عن روح ميدان التحرير، وعن قيم ثورة 25 يناير، وعن التواصل الذى كان سائدا بين مختلف الاتجاهات السياسية وأيضا بين المسلمين والمسيحيين والذى بلغ ذروته عندما كانا يحميان بعضهما البعض خلال الصلاة.
الآن، نحن نرى الآن معارك تنتمى للقرون الوسطى تنتشر فى شوارعنا.. حيث ينتهى خلاف بين مأمور قسم وسائق يخالف قواعد المرور بالقتل.. ونرى بلطجية وسط الثوار يعتدون بالضرب على إعلامية فى مشهد يستدعى للذاكرة نفس السيناريو الهمجى لموقعة الجمل.. وكأن السوقية والثورية شىء واحد!
وعلى مستوى النخب السياسية، انتشر الضرب تحت الحزام بين مختلف التيارات منذ الاستفتاء على التعديلات الدستورية.. ففى حين يروج قسم كبير من الإخوان وغيرهم من الفصائل الاسلامية أن نتيجة هذا الاستفتاء كانت دليلا على شعبيتهم، وزعموا للناس ــ وهم يدركون أن زعمهم هذا غير صحيح ــ أن تصويتهم بنعم هو تصويت للاسلام وأن التصويت بلا هو تصويت لأعداء الدين.. وفى المقابل رفضت أقسام كبيرة من الليبراليين واليساريين والعديد من ائتلافات شباب الثورة نتيجة الاستفتاء، وتنادى الآن بصياغة الدستور الجديد أولا قبل الانتخابات التشريعية والرئاسية.. رغم أن أبسط قواعد الديمقراطية تفرض على الجميع عدم خداع الناس، وأيضا قبول اختياراتهم مهما كانت!
وعلى مستوى الحكومة يخوض القضاة معركة ضارية مع وزير العدل استخدمت فيها تعبيرات غير لائقة.. ويرفع وزير الداخلية شعار الشرطة فى خدمة الشعب دون أن يوضح لنا ما هى آلياته لإعداد كوادر شرطية جديدة تؤمن حقيقة بهذا الشعار الذى يتطلب إعادة هيكلة جهاز الشرطة من الألف للياء!
ما يحدث الآن هو حوار بين طرشان.. كل طرف يتصور أنه يمتلك الحقيقة كاملة، ويدير خلافاته مع الآخرين بنفس منطق نظام مبارك، الذى كان يقصى المعارضين ويتجاهل وجودهم.. وهى جريمة يتورط فيها الجميع بالصمت أحيانا، وتحت شعارات براقة أحيانا أخرى، وكأننا استبدلنا بمبارك «مبارك جديد»!
ما نحتاجه الآن هو إعداد «وثيقة عمل» يشارك فيها الجميع وتحرسها المؤسسة العسكرية، بحيث تضمن هذه الوثيقة عدم انقلاب أى فصيل سياسى على قواعد اللعبة الديمقراطية وتفرض عليه قبول الآخر، وتضمن أيضا حقوق المواطنين وتحدد واجباتهم خلال تعاملاتهم مع أجهزة الدولة.. حتى نعود من جديد إلى روح يناير التى نكاد نفقدها بدون أن نشعر!