إسرائيل خسرت سيادتها فى الجزء الشمالى من الدولة، هذا ما قاله وزير الخارجية الأمريكى، أنتونى بلينكن، الأسبوع الماضى، فى مقابلة أجراها معه معهد بروكينجز فى واشنطن. وتابع: «لا يشعر الناس بالأمان كى يعودوا إلى منازلهم. ومن دون العمل على مواجهة هذا الشعور بعدم الأمان الذى يتملك السكان، لن يكونوا قادرين على العودة الآمنة». لا يحتاج سكان الشمال والمواطنات والمواطنون الإسرائيليون كلهم إلى تحليل بلينكن الدقيق، فهم يختبرون ذلك مباشرة. وإذا كان المعيار العملى للسيادة هو قدرة السكان على العيش بأمان فى منازلهم، معتمدين على حماية الدولة لهم، فإن السيادة الإسرائيلية فى الجنوب غير كاملة أيضًا.
حتى 7 أكتوبر، انتهجت إسرائيل استراتيجية، مفادها أن الاستيطان على طول الحدود وردع العدو، يؤمّنان الشرط الأساسى لتحقيق سيادتها. لكن فى حرب «يوم الغفران»، وبأوامر من الجيش الإسرائيلى، تم إجلاء السكان عن هضبة الجولان، كما غادر كثيرون من المستوطنين الضفة الغربية بمبادرة منهم. ومثلما حدث فى الهجمات على المستوطنات فى قطاع غزة، قبل خطة الانفصال فى سنة 2005، وعلى الرغم من الوجود الكثيف للجيش للدفاع عن نحو 8 آلاف مستوطن، فإن المستوطنات بحد ذاتها لا يمكن أن تشكل حزام أمان، حسبما اتضح. فى 7 أكتوبر، انهار المفهوم الأمنى للاستيطان، وتبخّر الردع.
تتطلع إسرائيل، من خلال إعادة احتلال غزة، إلى إحياء هذا المفهوم، لكن فى الاتجاه المعاكس. أولًا، يجب تحييد العدو، وبهذه الطريقة فقط، يمكن إعادة الشعور بالأمان والثقة إلى السكان، الذين غادروا منازلهم، بقدرة الدولة على الدفاع عنهم، وإحياء السيادة التى انهارت. ومقارنة بالحروب الماضية، تحاول الحكومة والجيش، هذه المرة أيضًا، التخلى عن ضرورة تثبيت الردع، كشرط لضمان الأمن من خلال القضاء على العنصر الذى يجب ردعه. وهما يعتقدان أنه عندما تختفى «حماس»، يزول التهديد، ومن دون «حماس»، الردع ليس ضروريًا.
ومعنى هذه الاستراتيجية خلق وضع جديد سيحتاج فيه الجيش فقط إلى «صيانة» غزة لمنع نشوء تهديد جديد. ولهذه «الصيانة» تأويلات عملية على الأرض. السيطرة على نحو 26% من أراضى القطاع، حسبما كشف تحقيق لـ«هآرتس» أجراه يردان ميخائيلى وآفى شرف؛ وبتر القطاع من خلال ممر واسع أقيمت على طوله القواعد، ومع وجود عسكرى على طول محور فيلادلفيا على الحدود المصرية من أجل وقف تدفُّق السلاح إلى «حماس»، وإقامة منطقة عازلة على الحدود بين غزة وإسرائيل، وضرب القدرات العسكرية والبنية التنظيمية لـ«حماس» بقوة.
هذه الاستراتيجية تنقل الحرب إلى أراضى العدو، وتجبر الجيش على البقاء فى قطاع غزة زمنًا غير محدود. وحتى لو لم يبقَ عنصر واحد من «حماس» ومسدس واحد، سيبقى فى غزة أكثر من 2.25 مليون نسمة من دون زعامة بديلة، ومن دون بنية اقتصادية مستقلة، وهو ما يجعلهم تابعين لدولة إسرائيل بصورة كاملة. وسيكون لهذه التبعية ثمن هائل.
• • •
فى سنة 1967، عندما احتلت إسرائيل الضفة الغربية والقطاع، كانت توجد بنى تحتية اقتصادية ووسائل إنتاج وعلاقات تجارية بين الأردن ومصر، ومؤسسات تعليمية ومستشفيات وطواقم طبية، وبصورة خاصة، كانت توجد زعامة محلية فى البلدات والقرى مستعدة للتعاون مع الاحتلال الإسرائيلى من أجل تحريك عجلة الحياة من جديد. كان الحكم العسكرى الإسرائيلى، آنذاك، من دون تجربة، ومن دون خطة عمل منظمة، باستثناء البنية القانونية التى أُعدّت قبل ذلك بسنوات، أعدها النائب العام العسكرى، حينها، مئير شمغار.
لكن التجربة الطويلة للجيش فى احتلال مناطق آهلة لن تفيده الآن. غزة فى سنة 2024 تختلف عن غزة فى سنة 1967. فمع تدمير البنى التحتية العسكرية لـ«حماس»، دمّر الجيش الإسرائيلى كل البنى التحتية المدنية فى القطاع. واستنادا إلى تقرير البنك الدولى الصادر فى مايو، فمن أصل 470 ألف وحدة سكنية كانت موجودة فى القطاع، قبل 7 أكتوبر، بقى 179 ألف وحدة سكنية فقط؛ وأصبح أكثر من مليون شخص من دون مأوى. وانخفضت كميات مياه الشرب (وهى ليست صالحة للشرب دائمًا) للفرد الواحد إلى 3 ليترات، وحتى سبعة فى اليوم، تبلغ تقريبًا 14% من الكمية الدنيا التى توصى بها الأمم المتحدة. ومن أصل 35 مستشفى كانت تعمل فى القطاع قبل الحرب، بقى 12 مستشفى فقط فى الخدمة.
ويظهر من تقارير الأمم المتحدة أيضًا أنه قبل الحرب، كانت تعمل فى القطاع 813 مدرسة متوسطة وثانوية، تضم 625 ألف تلميذ؛ ومنذ أكتوبر، تضرر 80% من المدارس تقريبًا بصورة كبيرة، أو دُمرت بالكامل. هذه بعض النماذج عن الحاجات المُلحة المباشرة التى سيضطر الحكم العسكرى الإسرائيلى إلى معالجتها. وبحسب تقرير البنك الدولى والاتحاد الأوروبى والأمم المتحدة، الصادر فى أبريل، فإن حجم الضرر الاقتصادى فى القطاع حتى ذلك التاريخ يُقدّر بـ18.5 مليار دولار. وهذا المبلغ يساوى الناتج الاقتصادى السنوى للضفة الغربية والقطاع معًا. كما أن المصانع والمزارع دُمرت بالكامل، وتتطلب إعادة بنائها مساعدات بمليارات الدولارات.
لكن قبل القيام بهذه المهمة، هناك حاجة إلى إزالة 26 طنًا من الردم الذى تسبب به القصف الإسرائيلي. وإذا بقيت إسرائيل كقوة احتلال فى القطاع، فإنها لا تستطيع أن تتوقع من الدول المانحة - غربية كانت، أم عربية، الموافقة على تقديم مساعدات مالية لإعادة إعمار القطاع، إذا كانت هذه الأموال ستُحوّل من خلالها. هذه الدول قد توافق على تقديم المساعدات الإنسانية، أمّا البقية، فسيكون على إسرائيل إنفاقها من ميزانيتها.
فى سنة 1967، استخدم وزير الدفاع، آنذاك، موشيه ديان سياسة "الجسور المفتوحة"، التى بدأت تنقل السلع الزراعية من الضفة والقطاع إلى الأردن، وقد تطورت إلى سياسة اقتصادية دعمت التهدئة الأمنية. لا يوجد فى غزة اليوم أى «جسر مفتوح»، ولا جسر يسمح لعدد كبير من المدنيات والمدنيين، بينهم كثير من المرضى، بمغادرة القطاع، فضلًا عن السلع. كما أن سيطرة إسرائيل على معبر رفح على الحدود المصرية، ورفضها دخول ممثلين للسلطة الفلسطينية لتشغيله، أديا إلى إغلاقه بصورة كاملة من الجانب المصري. وما دام هذا الوضع مستمرًا، فإن القطاع سيكون جيبًا مغلقًا تماما، وليس هناك أيّ فرصة لترميمه وإعادة النشاط الاقتصادى إليه، لكى تتمكن إسرائيل من التحرر من تمويل سيطرتها عليه لاحقًا.
• • •
ليس لدى إسرائيل بديل من سلطة حماس، أو السلطة الفلسطينية، ولم تنجح فى تجنيد زعامة محلية تقبل التعاون معها. لقد أوضح ممثل اتحاد العشائر المحلية فى غزة عاكف المصرى، الأسبوع الماضى، أن العائلات الكبيرة فى غزة ستحبط خطط نتنياهو فى الفترة المقبلة، كما أحبطت خطط الاحتلال فى الأشهر التسعة التى مرت. ويقصد المصرى المساعى التى قامت بها أطراف إسرائيلية، بحثًا عن زعامات محلية توافق على إدارة القطاع، تحت إشراف وسيطرة إسرائيلية. من دون زعامة تتوسط بين السكان والحكم العسكرى، ومن دون جهات أمنية محلية توافق على القيام بمهمة الشرطة والأمن المدنى، سيضطر ضباط وجنود الجيش إلى القيام بمهمات الشرطة فى القطاع، وإدارة الخدمات المدنية.
من الصعب التوفيق بين هذا السيناريو وبين اتفاق وقف إطلاق النار ووقف الحرب، بحسب تعهُّد الخطوط الأساسية لاتفاق تحرير الرهائن، والذى من المفترض أن تسحب إسرائيل قواتها من القطاع فى نهايته. لكن إذا ظلت إسرائيل تدير المنظومة المدنية فى القطاع، فإنها ستصبح العنصر السيادى، مع كل التداعيات الدولية والسياسية والقانونية، ولن يشكل ذلك ضمانة لأمن سكان "غلاف غزة". عدد المسلحين وكميات السلاح الموجودة فى القطاع، والقدرة على إنتاج العبوات، والحوافز لدى السكان للعمل ضد قوات الاحتلال، حتى لو لم يكونوا منظمين مثل "حماس"، أو الجهاد الإسلامى، أمور كلها ستؤدى إلى حدوث مواجهات دموية دائمة بين الجيش والسكان، تتغذى من المواجهات العنيفة فى الضفة.
وبدلا من "حماس"، ستنشأ تنظيمات جديدة، حتى لو لم يكن لديها القدرة العسكرية التى تتمتع بها الحركة، وستكون قادرة على العمل ضد الجيش الإسرائيلى، ربما عبر وسائل أقل تطورا، لكنها ستحافظ على جبهة عنيفة دائمة تشغل الجيش، وتخلق بؤرة تهديد دائمة، لا يمكن أن تضمن الشعور بالأمان الذى يحتاج إليه سكان الغلاف. فى مثل هذا الوضع، إن عنصر الردع الذى اعتمدت عليه الاستراتيجية الأمنية فى مواجهة حماس وحزب الله، لن يكون له معنى أيضًا. لا يمكن ردع سكان مسحوقين، ليس لديهم ما يخسرونه.
تسفى برئيل
هآرتس
مؤسسة الدراسات الفلسطينية