كلما دخلت إلى موقع فيس بوك وجدت صديقة أو صديقا أخضع نفسه لاختبار مِن ضمن الاختبارات الكثيرة التى يمتلئ بها الموقع، ونشر النتيجة معلقا عليها أو مكتفيا بها دون تعليق، تاركا للآخرين فرصة الحديث عنها، وربما صار طرفا فى الحوار.
تتباين الاختبارات فى نوعيتها وفيما تقيِّمه مِن سمات وخصال، وما تدّعى أنها تقيسه مِن طبائع وسلوكيات وقُدرات، ويبدو أنها تجذب المتواصلين جذبا لا تسهُل مُقاومته فبين مُجربيها شباب وشابات صغار، مثلما بينهم كبار السنّ والمَقام، وكذلك أصحاب المسئوليات الكبرى والمشغوليات المرهقة، وكلهم يهتم بمعرفة رأى الفيس بوك فى شخصه وتكهنات الاختبار بصفاته ومهاراته.
أظنّ أن كلّ فرد يحب أن يمتدحه الاختبار، وأن يُظهِره فى أبهى صورةٍ مُـمْكنة، حتى ولو كانت غير حقيقية على الإطلاق، طبيعةٌ بشريةٌ لا يمكن الجدال فيها؛ فمَن مِنا لا يأبه بما يظن فيه الآخرون، وكم مِن المتواصلين فى الفضاء الإلكترونىّ لا يهتم بمشاركة ما ينشر، وكم مِنهم لا يستميت فى كسب الإعجاب أو حتى يبحث عنه، وكم مِنهم لا يشعر بالغبطة والرضاء كلما ازدادت مَنشوراته شعبية واكتسبت الشهرة؟
***
تتمحور الاختباراتُ أغلبُها حول الذات؛ موضوعها الرئيس يظلّ دائما مُرتبطا بشخصية المُشارك، عناوينها تدور فى فلكٍ واحدٍ: ما هى أقرب شخصية لك؟ ما هى المهنة التى كان يمكن أن تمارسها؟ ما هى أكثر كلمة تستخدمها؟ ولا يمكن إغفال العنوان الأشهر الذى يجذب الجميع: «احصل على تحليل لشخصيتك».
هناك أيضا تساؤلات أكثر عاطفية ونعومة وإن كانت ركيكة الصياغة مثل: مِن أيّ أنواع القلوب يكون قلبك؟ ما هو لون الهالة المحيطة بك؟ هناك على الجانب الآخر تساؤلات تميل إلى الهزل فى أغراضها مثل: أىّ منصب تستحق فى الدولة؟ وهو تساؤل يستجلبُ تعليقات ساخرة لا حصر لها، وأخيرا هناك التساؤلات التى لا معنى لها مِن الأصل مثل: ما هى جملتك الأكثر معنى؟
إلى جانب التساؤلات توجد أيضا مسلمات لا تقبل الجدل؛ صادفت منذ أيام اختبارا بعنوان «أربع حقائق عنك»، وهو عنوان ذو صياغة توحى بالثقة والتأكيد، لا يترك مُبتكره فرصة أمام المُتلقى للتشَكُّك فى جدية الأمر ومدى دقته وصدق الحقائق التى سيخرج بها ومدى انطباقها عليه. تأتى هذه الحقائق مرتبة فيحصل المشارك على النتيجة التالية: أنت تحب الابتكار، أنت تكره النفاق، أنت مباشر الطبع، أنت متواضع. على هذا المنوال يمكننا أن نصادف مسلمات أخرى مِن قبيل: هذا الاقتباس سوف يلمس قلبك، هذه الملاحظة تصفك بشكل ممتاز؛ وكلاهما يعتمد على الإيحاء بالدرجة الأولى.
***
حين ينجذب الشخصُ لعنوان الاختبار ويسعى إلى التجربة؛ تظهر رسالة تطلب منه تسجيل الدخول عبر فيس بوك ليرى نتيجته، ويُلاحَظ فى سياق الانتشار أن ثمّة نسخة انجليزية مِن الموقع والصفحة تجد بدورها رواجا كبيرا، وأن عدد المشاركين الذين تسجلوا لمعرفة أربعة حقائق عن أنفسهم تجاوزوا المليون. الولع بتنجيم الفيس بوك ظاهر والإقبال منقطع النظير، أما الأسباب فبالتأكيد شديدة التفاوت.
هذا الانشغال المفرط بالذات قد يعنى أننا لا نعرف الكثير عن أنفسنا، أننا ننتظر أن يقول لنا أحدٌ ما لا ننتبه إليه وما لا نجد الوقت للتفكير فيه. ربما يشير إلى أننا نتوقع شيئا مفاجئا ومبهجا فى الوقت ذاته يخفف عنا مصائبنا؛ ربما نتنسم خبرا سارا ــ ولو كان غير جاد ــ وننقب عنه بملقط، وربما يكون الأمرُ مَحضَ فضول؛ وسيلة لتمضية الوقت، أو إشارة إلى أن ثمّة من يهتم بى وبك بصفة شخصية، لكن هل نقتنع فعلا بالنتائج؟
تجىء النتائج فى العادة إيجابية؛ فماذا يجنى صانعها إن أغضب المشارك وخسر اهتمامه إزاء ما يقدم له مِن اختبارات وقياسات. أظن أيضا أن أية نتيجة تظهر سيُعدّها المُشارك نفسه إيجابية، وسوف يكون مُستعدا للنظر إليها مِن زاوية التفوق والتألق. على سبيل المثال سيجد أن تمثيله فى نهاية الاختبار بالثعلب هو أمر رائع، يعنى أنه فرد شديد الذكاء والدهاء، ولن يلتفت مطلقا لما تطرحه الصورة الذهنية الراسخة عن الثعلب مِن صفات سلبية كما المكر مثلا. سيشرح مَن تظهر له مهنة بائع الصحف كأكثر المهن ملائمة لشخصيته كيف أنها تعكس عميق ثقافته وسعة اطلاعه، ولن يفكر أبدا أنها قد تضعه موضع قليل الحيلة والرزق، وإذا طرق المشارك هذه الزاوية السلبية وانتبه لها؛ ففى عقله فقط، لن يعلن عنها إلا قليل مِمَن يعتمدون السخرية وسيلة للتعامل مع الإخفاقات على تنوعها.
***
مشوقة هى؛ قياسات واختبارات وألعاب مواقع التواصل الاجتماعية، وأكثر منها تشويقا وإثارة افتتاننا بها وقضاء الوقت معها.