السجن مَطرح الجنينة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 12:22 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السجن مَطرح الجنينة

نشر فى : السبت 7 نوفمبر 2015 - 8:35 ص | آخر تحديث : السبت 7 نوفمبر 2015 - 8:35 ص

منذ أيام قليلة، بشَرت الصحف قارئيها بإنشاء سجنين جديدين، يفتتحان قريبا ليستقبل كلٌ مِنهما مئات المواطنين، قِيل إن الهدف هو تفريغ الأقسام التى تكتظ بالمُحتجزين، وقيل أيضا إن هناك رغبة فى تقديم خدمةٍ أفضل للمسجونين، لكن الشواهد تشير إلى أن الأمر لا يتعلق بالتكدُس فى الأقسام فقط، بل بزيادة عدد نزلاء السجون عن الحدود، التى يسمح بها التكدُس نفسه.

فى سياق ما يصل إلينا مِن أنباء حول وفاة مُحتجز أو آخر جراء إهمال طبى يمكن تلافيه بأبسط الإجراءات والتدابير، يصعب كثيرا تصديق ادعاءات الحرص على حقوق المحتجزين ورفاهتهم. يبدو الإهمال متعمدا فى كثير مِن الأحيان، فالموت بطبيعة الحال حلُ سهل وأقل كُلفة بالنسبة للمسئولين، إذ يُخفف الجهد المبذول للعناية بمريض، لا تُراد له الحياة مِن الأساس.
المكان المُخصَص للحبس الاحتياطى الذى يمتد شهورا، وقد يتجاوزها ليصل إلى عام أو عامين، وربما ما يزيد، صار بمقتضى التعديل الأخير لقانون السجون خاضعا لمستوى المسجون الاقتصادى، والحق أن المادة القانونية التى تقضى بجواز انتقال المحبوس إلى غرفة بها بعض الأثاث لقاء مقابل مادى كانت موجودة سلفا، والجديد فى الأمر أن القيمة المطلوبة ارتفعت مِن مائة وخمسين مليما ــ أى مِن لا شىء تقريبا ــ إلى خمسة عشر جنيها كحدٍ أدنى فى اليوم الواحد، وهو مبلغ قد لا يتوفر لكثيرين، ولا نعرف على أى أساس ومعيار سيتحدد.

***
هكذا تمتد مظلة الظلم مُضاعَفة. الناس فى الحبس ليسوا متساوين، ومبعث اللا مساواة لم يعُد أمرا تراه السُلطة وتغضُ عنه بصرها، بل بات مِن الآن فصاعد مُقننا ومشروعا، ومُنظما أيضا. أصحاب الحظ الأفضل والرفاهة والمعاملة الأكرم هم أصحاب المال، والأمر مُجرد تكريس للوضع القائم فى كل شىء: التعليم الأفضل لأصحاب المال، الصحة الأفضل لأصحاب المال، حتى المُسائلة والعقاب الأفضل لهم، والحبس الاحتياطى استحال بالطبع أداة طيعة وفعالة مِن أدوات العقاب.
الغرف المؤثثة التى يستطيع المحبوس احتياطيا أن يقيم فيها إن كان يملك المال اللازم، تشبه بعض عنابر المستشفيات العامة التى يسمونها «اقتصادية»، يدفع المريض مِن أجل الانتقال إليها مَبلغا نقديا رغم أن المستشفى نفسه يحمل لافتة «مجاني». ما مِن شك أن زبائن هذه المستشفيات فقراء، ورغم تواضع الحال يتميز بعضهم عن البعض الآخر، فهناك دوما الفقير والأفقر، وكذلك صار المساجين، والدولة كعادتها تقود لعبة الإهانة والتفرقة بين المواطنين، لتتحصل على نصيب.
نعرف أن المحبوس احتياطا ليس بمُدان، بل هو شخص لم يخضع إلى مُحاكمة، والحبس الاحتياطى قسر وإجبار تمارسه الدولة بموجب السُلطة الممنوحة لها حتى تتمكن لاحقا مِن تحقيق العدل، فإما أن يتساوى فيه الناس أو يُتركون لشأنهم، وعلى كل حال فإن المشرع الذى يبيح استخدام القوة غير المُعرفة، وغير المحدودة مع من يُخالف أوامرَ أو لوائح السجن، قادرٌ ولا شك على صك مزيد مِن القوانين، التى تؤسس لاستعباد المواطنين.

***
نشرت الصحف خبرا حول دراسة استخلص أصحابها أفضل الدول لمعيشة الشباب دون الخامسة والعشرين مِن العمر، وصنفوها فى قائمة احتلت مصر ذيلها تقريبا، وقد اعتمدت الدراسة على عدد مِن المؤشرات بينها الأوضاع الاقتصادية، والشعور بالتفاؤل، وكلاهما غائب بطبيعة الحال عن الغالبية العظمى مِن الشبان والشابات المصريين، خاصة وأن قسما كبيرا منهم قابع فى الزنازين، وقسما آخر ينتظر الانتهاء مِن السجون التى يجرى بناؤها على قدم وساق، والتى تبدو على رأس أولويات النظام.
لا تنفك الصحف تتداول مؤشرات التراجع العام؛ تراجُع فى قيمة العملة المحلية، تراجُع فى إيرادات قناة السويس التى صدعت بها رؤوسنا على أنها مشروع اقتصادى عظيم، تراجُع فى مستوى التعليم، تراجُع مشهود على صعيد الحريات فِكرا وفِعلا، وتراجع اقتصادى جديد مُتوقع خلال الأشهر المقبلة، قالت بعض التقارير إنه نتيجة غياب الرؤية، وعدم وجود خُطط واضحة للعمل، إضافة إلى عشوائية اتخاذ القرارات.
كلما ازداد التراجُع، وضاق براحُ الكلمة، كلما تعاظمت الحاجة إلى السجون، والسجون التى نعرف بها على وجه الأرض ربما تقابلها أخرى فى الباطن لا ندرى عنها الكثير. حفظنا وكررنا مُنفعلين أحيانا، ومنتشين فى أخرى، كلمات نجم ولحن الشيخ إمام:

شيد قصورك فى المزارع مِن كدنا وعرق إيدينا
الخمارات جنب المصانع والسجن مطرح الجنينة
واطلق كلابك فى الشوارع واقفل زنازينك علينا

حفظنا الأبيات، ولا أظن أننا كنا ندرك مع كل وصلة غناء أنها هكذا قريبة وقاسية. السجنان الجديدان ينضمان خلال أشهر أو أسابيع إلى السجون الخمس الإضافية التى اكتمل إنشاؤها ما بعد الثلاثين مِن يونيو، ليصبح العدد الإجمالى خلال سنتين ونصف سبعة سجون، أى أن مُعَدَل البناء هو ثلاثة سجون فى العام الواحد تقريبا. السجن بدلاً مِن الزرع، ورائحة القهر بدلاً مِن هواء الحرية، وجُدران الظلم بدلاً مِن ميزان العدل. لكل مولود جديد مكان فى السجن.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات