فى يناير عام 1977 رفع الرئيس الراحل أنور السادات أسعار بعض السلع وأنابيب البوتاجاز، وقتها لم يكن المواطنون لديهم رفاهية الصمت، فخرجوا إلى الشوارع والميادين فى احتجاجات عفوية، وصفها الرئيس «المؤمن» وقتها بأنها انتفاضة حرامية، رغم أنها انتهت بتراجع السادات عن تلك القرارات التى كان بعض الخبراء الاقتصاديين يرونها ضرورية لإصلاح تشوهات فى الاقتصاد المصرى.
طبعا هذه القرارات التى جرى التراجع عنها كانت تطورا طبيعيا لسياسة انفتاح «السداح المداح» كما وصفها الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، طيب الله ثراه، وشكلت ترجمة لتوجهات السادات نحو الغرب، وربط الاقتصاد المصرى بالمؤسسات المالية الدولية، والتخلى عن البرنامج الوطنى للتنمية الذى عاش مبارك ورجاله من بعده على بيع مصانعه وممتلكاته لصالح حفنة من المنتفعين واللصوص.
ظل السادت قبل رحيله يتحدث عن «عام يغاث فيه الناس وفيه يعصرون» لكن لم يرد الله حتى اليوم أن يأتى هذا العام، فبقيت الحكومات من يعصر المواطنين، طالبة منهم الصبر على المحن والمكاره، وها هى حكومة المهندس شريف إسماعيل تطالب الناس بالأمر ذاته، عام الغيث يأتى على يد وصفة صندوق النقد الدولى، التى طالما حذر الخبراء منها، لكن يبدو أن هؤلاء الخبراء أكلت القطة لسانهم فلم يعد منهم من يحذر.
اليوم يجد الناس قرارات حكومية تهوى بقيمة جنيهاتهم القليلة إلى الأسفل، ومن سينجو منها سيسقط فى فخ ارتفاع الأسعار الذى رافق تقليص دعم الوقود، ولعل المشاجرات والمشادات التى نشبت بين الركاب وسائقى الميكروباص أبلغ دليل على أن المسألة أكثر من قرارات «مؤلمة» فقد فجرت أوجاعا، لا نعلم إلى أين ستمضى بنا ونحن نشاهد ما يشبه الاحتراب داخل محطات النقل فى مختلف المحافظات، وبعد أن تحول ارتفاع الأسعار إلى وقود يحرق الجيوب.
ستقول الحكومة إنها نشرت رجالها فى كل مكان لمنع التلاعب فى المحطات، وإجبار السائقين على الالتزام بالأجرة المقررة التى لا نعرف من سيقررها السائق الذى بات يتحمل أموالا اضافية لتزويد سيارته بالوقود، أم الراكب الذى التهم التضخم وتحرير الجنيه ما فى جيبه من أوراق مالية؟!.
وضعت الحكومة المواطنين فى مواجهة بعضهم البعض، وتظاهرت بـ«التسليك» من دون أن تتعرض «لتقطيع هدومها»، وهو أمر ستكون تداعياته كارثية على العلاقة الاجتماعية بين الناس، بعد أن اشتعلت الأزمات فى وجوههم، وتركوا فى العراء لمواجهة مصيرهم، وسط حديث معاد ومكرر عن مظلة حماية اجتماعية هى حتى الآن غير قادة على نشرها فوق رءوس المتضررين، وهم السواد الأعظم من المصريين.
سيقول من يدهم فى الماء، وماذا على الحكومة أن تفعل فى مواجهة تراكم سنوات طويلة من المشكلات التى جبن الآخرون عن تحمل تبعات الخروج منها؟، وسيقول غيرهم من الأنصار، احمدوا الله إننا نعانى الغلاء حتى ولو كان قاسيا، أليس هذا أفضل من أن يكون مصيرنا كـ«سوريا والعراق»، وهى اسطوانة أصبحت ممجوجة، ولم تعد صالحة للاستهلاك المحلى؟.
ألم يكن هناك العديد من الأبواب التى يجب طرقها، إذا كنا جميعا شركاء فى تحمل «الألم»، وهل ستتقدم الحكومة بمشروع قانون للضرائب التصاعدية كما قال رئيس الوزراء حقا؟، لماذا نرحل تطبيق قانون الضرائب على نشاط البورصة لثلاث سنوات جديدة؟، ألم يحن الوقت للضرب على يد الفسدة الكبار بدلا من التصالح معهم، أليس من العدل أن يتحمل المرحلة الصعبة كل حسب طاقته، بدلا من تحميل الفقراء ومن بقى صامدا من ابناء الطبقة الوسطى «الدواء المر» وحدهم؟!
صراخ الناس لم يعد «مكتوما»، ويخشى من نواحهم، فلم يعد فى الجسد ما يمكنه تحمل المزيد من «الألم».