كلما اتجهت مصر إلى صندوق النقد الدولى لترتيب قرض جديد، تحتشد العديد من وسائل الإعلام المحلية والعالمية لاستطلاع آراء الخبراء هنا وهناك حول نوايا الصندوق، شروطه، أدواته التفاوضية والرقابية... إلى غير ذلك من استفسارات متكررة، لكن على رأسها جميعا استفسار حول مدى استساغة الشعوب لشروط الصندوق وترتيباته، وكيف نضمن أن تلك الترتيبات لا تأتى على حساب المواطن الكادح؟
الصندوق كأى مؤسسة تمويلية لا يقدم على إقراض أى دولة قبل أن يتأكد من قدرة تلك الدولة على السداد، وأن السبب الذى من أجله تمت الموافقة على منح القرض، لن تعمد الدولة المقترضة إلى تعزيزه بمزيد من السياسات المؤدية إلى تفاقم الأزمة. فإذا كان القرض مخصصا (مثلا) لعلاج خلل مزمن هيكلى فى ميزان المدفوعات، فإن اقتصاديى الصندوق يحرصون على دراسة أسباب ذلك الخلل، ووضع تصورات لعلاجه من خلال اتباع حزمة من الإصلاحات المالية والنقدية، مع إلقاء الضوء على المحاذير التى يتعين على الدولة تجنبها حتى لا يزداد ذلك الخلل عمقا أو لا يستمر كما هو دون معالجة تذكر.
عود إلى حالة الخلل المزمن فى ميزان المدفوعات، باعتباره السبب الرئيسى لمنح أكبر أنواع التسهيلات الممتدة إلى الدول الأعضاء فى الصندوق، والذى من أجله مُنحت مصر قرضا بلغ 12 مليار دولار اعتبارا من نهاية عام 2016، وكذلك القرض الأخير الذى تمت الموافقة عليه مبدئيا بقيمة ثلاثة مليارات دولار، لأسباب لا تختلف عن تلك التى عانت منها مصر قبيل الموافقة على القرض السابق. فإذا كان السبب الأبرز لعجز الميزان الخارجى هو عجز ميزان المعاملات الجارية (متمثلا فى الفجوة بين صادرات السلع والخدمات ووارداتها)، فإن أحد أسباب ذلك العجز تتمثّل فى تقييم العملة المحلية بأكبر من قيمتها السوقية أمام العملات الرئيسية، وتلك القيمة السوقية تعكس آليات العرض والطلب بأقل قدر من تدخل السياسة النقدية.
التقييم المختل للعملة المحلية يغرى بالمستوردين ومن ورائهم المستهلكين المحليين أن يستكثروا من أصناف وكميات الواردات، مستفيدين من فرق سعر الصرف، مما يزيد من عجز ميزان التجارة (الخاص بالسلع) وكذلك عجز ميزان المعاملات الجارية (السلع والخدمات) وما يترتب على ذلك من استمرار فى وضع ميزان المدفوعات المتأزم. هنا تأتى التوصية الشهيرة لاقتصاديى الصندوق بضرورة تحرير سياسة الصرف المحلى، حتى وإن ترتب على ذلك تراجع كبير فى قيمة العملة الوطنية، وما يسفر عنه من موجات تضخمية عنيفة تلقى بظلالها على المجتمع كله.
كذلك يشدد الصندوق على معالجة أى عجز فى الموازنة العامة من شأنه أن يتطلب تمويلا من خلال الاقتراض الخارجى (على وجه الخصوص) والضغط على النقد الأجنبى. من هذا المنطلق تحديدا تأتى وصفة الصندوق التقشفية، الداعية إلى الحد من الإنفاق الحكومى لتقليص الفجوة بين الإيرادات الشحيحة والمصروفات. ويأتى فى مقدمة ضرورات الترشيد والتقشف التخلص من الدعم العينى والسعرى ومن أى دعم غير موجه، يتسبب فى خلل الأسعار ويضغط على الموازنة العامة للدولة. ولا يخفى على أحد أن تخفيض الإنفاق وترشيد أو رفع الدعم كلاهما يؤثر فى سلامة الوضع الاقتصادى للمستهلك والعامل الذى يتعرض لأثر مضاعف، نتيجة رفع الأسعار (بعد التخلص من الدعم) وتراجع فرص العمل الناتجة عن السياسات التقشفية.
ويماثل سياسات التقشف فى الأثر المجتمعى، ما يتطلبه الصندوق من ضرورة توقّف الدولة عن منافسة القطاع الخاص، من خلال بيع الأصول المملوكة للدولة (الخصخصة) حتى تتدفق الاستثمارات داخل الاقتصاد بسهولة، وتعود الاستثمارات سواء الساخنة أو غيرها مما يقلل الاعتماد على الاقتراض من الصندوق مستقبلا. بالطبع ترتبط عمليات الخصخصة فى كل العالم بتسريح العمالة الزائدة، والتخلّص من الكثير من الوظائف التى لا تجد لها مكانا فى سوق العمل بسهولة، لا سيما فى ظل الظروف الاقتصادية المتردية بداية.
• • •
من أجل ما سبق وغيره من تفاصيل يتعرض صندوق النقد إلى انتقادات عدة، بعضها يتلقاه من زملائه فى البناية المجاورة بمؤسسة التمويل التوءم، البنك الدولى، الذى يعنى بتحقيق أهداف أكثر استدامة وتمويل احتياجات أطول أمدا من تلك التى يستهدفها جاره النقدى. وانتقد الاقتصادى الأمريكى «جوزيف ستيجليتز» (كبير الاقتصاديين فى البنك الدولى والحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد) صندوق النقد الدولى، مؤكدا أن القروض التى تقدم من الصندوق إلى الدول تكون ضارة فى حالات كثيرة، خاصة تلك التى توجه إلى الدول النامية ودول العالم الثالث. ويرى الاقتصادى «ميشيل تشوسودوفيسكى» أن برنامج صندوق النقد الدولى قد يترك الدولة فقيرة كما كانَت قبل اللجوء إليه، ولكن مع مديونية أكبر ومزيد من التركّز فى الثروة.
وقد أدانت «إيزابيل جرامبرج» (المسئولة السابقة فى برنامج الأمم المتحدة للتنمية) السياسات التى يفرضها الصندوق على الدول الأعضاء لا سيما النامية منها، كونها تتسبب فى ارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض القدرة الشرائية، والتبعية الغذائية، وتفكك للأنظمة الإنتاجية فى العديد من الدول... والمحصلة النهائية وفقا لإيزابيل هى انخفاض الدخل القومى فى البلدان النامية، إلى حده الأدنى جراء تطبيق سياسات الصندوق، مقابل ارتفاع الدخل القومى فى الدول المتقدمة بشكل متزايد.
كذلك يتعرّض الصندوق لانتقادات بشأن سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية عليه وعلى البنك الدولى، ومن ثم قدرتها على منح القروض والتسهيلات ومنعها، حيث إنها الدولة الوحيدة من بين الدول الأعضاء التى تمتلك حق الاعتراض (الفيتو). ورغم أنّ صندوق النقد الدولى تابع للأمم المتحدة، ويؤدى دورا داعما للاقتصاد العالمى، والمعاملات التجارية بين الدول، فإنّه كثيرا ما يتهم بكونه إحدى أدوات الشركات الكبرى لبناء إمبراطورية تسيطر على اقتصاد العالم، وتمتص قدرات الدول النامية دون رحمة.
وتلقى تلك الانتقادات آذانا صاغية من اقتصاديى الصندوق، الذين طوّروا من معتقداتهم وأدبياتهم النيوليبرالية الصِرف لتصبح أكثر تقبلا للبعد الاجتماعى للإصلاح الاقتصادى. فإذا كان الصندوق يعترض على الدعم الحكومى للسلع والخدمات من منطلق عقيدة راسخة بتحرير جهاز الثمن فى الأسواق من أى تشوهات سعرية، فإنه بات مرنا مع تقبّل فكرة الدعم النقدى المباشر الموجّه للأفراد الأكثر احتياجا دون التأثير على أسعار السوق. كما بات الصندوق أكثر تفهما للدور المجتمعى لمؤسسات الدولة، وممارستها دورا إنتاجيا فى بعض الأحيان. كذلك يرد الصندوق على تلك الانتقادات بضرب أمثلة من الواقع بنجاح مساره الإصلاحى فى عدد من التجارب الدولية دون لبس، من ذلك التجربة البولندية التى تعتبر إحدى التجارب الإصلاحية المهمة للصندوق، حيث تمت معالجة الخلل الهيكلى بشكل أفضل من نظيره فى كثير من الدول التى لم يساهم الصندوق إلا فى تسكين آلامها لفترة وجيزة، تلاها عودة تلك الدول لطلب الاقتراض من الصندوق مجددا، ولكن من موقع أكثر سوءا وبنية اقتصادية أكثر هشاشة.
• • •
تتمثل أهم أهداف صندوق النقد الدولى المعلنة فيما يلى:
1. تشجيع التعاون الدولى فى مجال السياسة النقدية بواسطة هيئة دائمة تهيئ سبل التشاور والتآزر فيما يتعلق بالمشكلات النقدية الدولية.
2. تيسير التوسع والنمو المتوازن فى التجارة الدولية، وبالتالى الإسهام فى خلق فرص العمل، وزيادة مستويات الدخل الحقيقى، وفى تنمية الموارد الإنتاجية لجميع الدول الأعضاء.
3. العمل على تحقيق الاستقرار فى أسعار الصرف، والمحافظة على ترتيبات صرف منتظمة بين البلدان الأعضاء، وتجنب التخفيض التنافسى فى قيم العملات.
4. المساعدة على إقامة نظام مدفوعات متعدد الأطراف فيما يتعلق بالمعاملات الجارية بين الدول الأعضاء، وعلى إلغاء القيود المفروضة على عمليات الصرف المقوّضة لنمو التجارة العالمية.
5. تدعيم الثقة لدى الدول الأعضاء، متيحا لها استخدام موارده العامة مؤقتا بضمانات كافية، كى تتمكن من تصحيح الاختلالات فى موازين مدفوعاتها، دون اللجوء إلى إجراءات تضر بالرخاء الوطنى أو الدولى.
لكن الجدل بشأن الصندوق لن يتم حسمه ريثما تتوافر بدائل إقليمية ودولية مناسبة، تعمل على منافسته بصورة فعّالة، لتحقيق أهداف معالجة الاختلالات الهيكلية باقتصادات الدول النامية، وبتكلفة أقل ومسئولية مجتمعية أكبر.