يبدو أن قطار التطبيع الذى وصل منذ عدة أسابيع إلى محطته السودانية سوف يعود أدراجه، هكذا على الأقل يعتقد العديد من المراقبين بعد أن قررت الخرطوم التهديد بالانسحاب من اتفاق السلام الذى وقعته مع إسرائيل تحت رعاية الرئيس دونالد ترامب، وذلك فى حالة رفض الكونجرس الأمريكى إصدار قانون بمنحه حصانة ضد قضايا الإرهاب، والتى قد تفرض على السودان دفع مبالغ فلكية كتعويضات لعائلات ضحايا 11 سبتمبر، باعتبار أنه كان يؤوى أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة فى أراضيه طيلة 5 سنوات خلال حكم الرئيس عمر البشير.
رغم المحاولات الدبلوماسية الحثيثة التى تبذلها إدارة ترامب لإنقاذ الموقف، فإن الفريق عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السودانى ــ طبقا لصحيفة النيويورك تايمز ــ قال لوزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو فى اتصال هاتفى أن بلاده لن تمضى قدما فى التطبيع إذا أصر الكونجرس على موقفه، فى نفس الوقت الذى منعت فيه الخارجية السودانية دبلوماسييها فى الخارج من اللقاء مع نظرائهم الإسرائيليين بدعوى أن التطبيع لم يتم رسميا.
صحيح أن الكرة أصبحت فى ملعب الكونجرس حيث يصر قادة الحزب الديمقراطى فيه على دفع السودان التعويضات التى تحكم بها المحاكم الأمريكية، لكن هناك أعضاء آخرون يرون أن اقتصاد السودان الهش لن يستطيع تحمل هذه المبالغ، فى حين يرى فريق ثالث أنه يمكن التوصل لحل وسط بأن يتم تأجيل دفع التعويضات لعدة سنوات حتى يتعافى السودان من أزماته الاقتصادية المتفاقمة، إلا أن الاتجاه الغالب الذى ترجحه الصحيفة الأمريكية أن الكونجرس سيصر على تحميل الخرطوم فاتورة التعويضات، مثلما وافقت على دفع 335 مليون دولار لتسوية القضايا المرفوعة من عائلات ضحايا تفجيرات السفارتين الأمريكتين فى كينيا وتنزانيا عام 1998.
من الواضح أن حسابات الفريق البرهان كانت متفائلة إلى حد كبير، بعد أن اكتشف التكلفة الباهظة لرهانه على رضا أمريكا ترامب عليه، لإقدامه على التطبيع مقابل غض بصرها عن خططه للسيطرة على الحكم فى السودان، وهى التكلفة التى لن تتحملها الميزانية السودانية، بل وقد تشعل الشارع السودانى ضده بسبب تفاقم الأوضاع المعيشية لملايين السودانيين.
غالبية القوى السودانية ــ مع تفاوت مواقفها من التطبيع ــ أصبحت تتهم البرهان صراحة بأنه يلتف حول أهداف الثورة التى أسقطت ديكتاتورية وفساد البشير فى ديسمبر الماضى، وأنه يخطط فعلا لسرقة هذه الثورة، عقب إعلانه تشكيل ما يسمى «مجلس شركاء الفترة الانتقالية» بلائحته الغامضة التى تسحب البساط من الحكومة ومن البرلمان المزمع تكوينه، وتضع السلطة الفعلية فى يد الجناح العسكرى فى الحكم.
السودان يقف الآن على مفترق طرق، ورقة التطبيع أصبحت محروقة حتى إشعار آخر، والثورة المضادة تنشب أظافرها فى أى تحول جاد نحو الحرية والسلام والعدالة الاجتماعية، والقوى الثورية تهدد بمظاهرات صاخبة إن لم تنصلح الأوضاع على الأرض.. فى حين تبقى سماء البلاد حبلى بالمفاجآت!