فى السادسة والنصف صباحا يرن جرس المنبه.. فى السابعة وثلاثة وثلاثين تغادر المنزل.. المسافة من المنزل إلى محطة الأتوبيس تستغرق من ثمانى إلى عشر دقائق ويصل الأتوبيس فى الثامنة إلا ربعا.. فى الثامنة وثلاث عشرة دقيقة تفتح باب المكتب وتضغط زر الكمبيوتر ليبدأ يوم العمل.
لثلاثة أشهر كان هذا جدولى اليومى مع بعض التغييرات الطفيفة، اثناء إقامتى فى ألمانيا ضمن برنامج لتبادل أساتذة الجامعة. جدول شديد الانضباط نفتقده فى مصر ونفتقد القدرة على الإنتاج المرتبطة بهذه الأحكام وتقسيم اليوم. لست فى معرض المديح أو المقارنة بين يومى فى شوارع ألمانيا وجامعاتها وبين يومى فى شوارع القاهرة وجامعتها، فهو أمر لن يصب فى صالح الأخيرة. ولكننى سأحاول أن أشارككم بعض ما شاهدته فى هذه الخبرة الحية.
•••
تربط مدينة برلين شبكة مواصلات عامة فائقة التنظيم والكفاءة والنظافة والفعالية، وبالتالى يستعملها معظم المواطنين بغض النظر عن القدرة المالية أو المرحلة العمرية أو حتى الحالة الصحية، فأستاذ الجامعة ورجل الأعمال والطالب وسيدة المنزل وعامل النظافة والمهاجر ذو الدخل المحدود وطالب المدرسة الابتدائية والمسنون وأصحاب الاحتياجات الخاصة جميعهم يركبون المواصلات العامة، بالإضافة إلى عدد لا يستهان به من راكبى الدراجات من مختلف الاعمار والخلفيات. استعمال هذه الشبكة يتيح للمراقب التعرف على شريحة عريضة من الشعب الألمانى المعروف بجديته وبحبه للعمل. مراقبة الوجوه ومحاولة استقراء القصص وراءها أصبحت هوايتى فى ظل غياب القدرة على التواصل اللفظى بسبب عدم معرفتى بالألمانية وعدم ترحيب الالمان بالتواصل بغير لغتهم العزيزة. لفت نظرى عبر ايام طويلة برغم هذه الخريطة الواسعة لمستخدمى المواصلات العامة غياب من هم فى سنى أصحاب السنين الأربعين، من يقفون فى منتصف الطريق يحملون على أكتافهم أعباءهم الاقتصادية والاجتماعية وينظرون بقدر من الامل إلى القادم، إلى سنون الحصاد الاقتصادى والتخفف من الاعباء. كأن جيلا كاملا لم يولد، يمتلئ المترو أو الأتوبيس أما بأصحاب الشعور البيضاء ممن تجاوزوا السبعين عاما وأحنت الحياة ظهرهم أو شباب فى سن الجامعات أو تجاوزوها بقليل.
•••
وتأكدت من ملاحظتى حينما ناقشتها مع بعض الزملاء الألمان فى الجامعة ؛ ففى ستينيات القرن العشرين وقت ازدهار الحركة الطلابية وحركات الهيبز التى اجتاحت أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، لم تكن عملية إنشاء أسرة وانجاب أطفال على أولويات الشباب فى تلك الفترة وإن تغير هذا التوجه بعد ذلك بعقود قليلة وتحول المزاج الألمانى لإنشاء أسر صغيرة العدد لا تعطل الوالدان عن الإسهام فى العجلة الاقتصادية بسبب الأطفال. دلالة هذا التوجه وتغيره هو انقلاب الهرم الاجتماعى، حيث ارتفع متوسط الأعمار وقلت الوفيات بينما انخفضت نسبة المواليد. ألمانيا فى حقيقة الأمر ليست شابة على الإطلاق.