فى مشهد غامض محير تناقلته وسائل التواصل الاجتماعى، ونرجو أنه غير مفبرك ومدسوس، جلس مسئول تابع لرابطة العالم الإسلامى فى مقابل مسئول تابع لها يعرف بمنظمة المناصرة اليهودية العالمية (global Jewish advocacy) ليوقعا على ما يبدو أنها وثيقة اتفاقية تفاهم واعتراف متبادل وتعاون فيما بين المنظمتين.
لنحلل المشهد: أهداف المنظمة اليهودية الكبرى معروفة ومعلنة، وهى الدفاع عن حقوق ومصالح كل فرد يهودى فى العالم كله، والدفاع عن وحماية وجود ومصالح ومكاسب الكيان الصهيونى المغتصبة فى فلسطين المحتلة، ودفع كل حكومات العالم، وعلى الأخص الغربية منها، نحو إصدار قوانين تحرم التعامل مع المنظمة الحقوقية الفلسطينية العالمية (B.D.S) التى تواجه ظاهرة وممارسات الفصل العنصرى الصهيونى تجاه الشعب الفلسطينى الأعزل المحاصر.
إذن نحن أمام منظمة صهيونية حتى النخاع، حتى ولو ألبست زورا وبهتانا ألبسة كل ملائكة هذا الكون، ومهما ادعت فإنها مثلا، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، تبارك استيلاء الصهيانة على خمس وثمانين فى المائة من أرض فلسطين التاريخية ليسكن عليها ستة ملايين يهودى، وذلك فى مقابل أن يحشر اثنا عشر مليون فلسطينى عربى مسلم ومسيحى، فى الخمسة عشر فى المائة الباقية، وهى بالطبع تبارك طرح نحو مليونين من الفلسطينيين من الكيان اليهودى حتى تقام دولة عنصرية نقية دينية يهودية، لليهود فقط، وهى أيضا تبارك القتل اليومى الممنهج لأطفال ونساء وشيوخ وشباب فلسطين، والاقتلاع الإجرامى لشجر زيتونهم، وسرقة مياههم، وزج كل من يقاوم الاحتلال فى السجون دون محاكمات عادلة.
لنعد إلى ذلك المسئول الذى يلبس لباس العرب ويتكلم بلغتهم وينطق باسم دين الإسلام، ولنسأل: أليس التوقيع على وثيقة التعاون والتفاهم مع المنظمة اليهودية تلك هو قبول ضمنى من قبل الرابطة الإسلامية لكل ما ذكرناه عن أهدافها ومواقفها المتناقضة تماما مع حقوق الشعب الفلسطينى القومية والدينية والإنسانية؟
ما يوحى بأن ذلك المسئول قد أدخل رابطته فى اللعبة الصهيونية الشهيرة، بقصد أو بدون قصد، هو لإقحام نفسه وأعضاء رابطته فى لعبة بكائية الهولوكوست الشهيرة، فحال توقيعه على الوثيقة ومصافحة المسئول اليهودى بحرارة جلس على كرسيه ليؤكد بكلمات منتقاة بأن أعضاء الرابطة، التى تمثل بليونا ونصف بليون مسلم، يدينون ويشجبون الهولوكوست الألمانى النازى بحق يهود أوروبا، الذى مورس منذ نحو ثمانين سنة.
ومع أن ذلك المسئول يعرف، على ما نعتقد، أن موضوع الهولوكوست ذاك مختلف حول الكثير من تفاصيله، من مثل عدد ضحاياه وأسبابه الحقيقية والمتخيلة ودور بعض المنظمات الصهيونية فى التعاون معه لاستعمال النازيين لدفع يهود أوروبا للهجرة إلى فلسطين وسرقتها، ويعرف الاستعمال الممنهج لابتزاز العالم كله، بما فيهم العرب، باسم الهولوكوست النازى، إلا أن المسئول اكتفى بذكر الهولوكوست النازى بحق الأموات اليهود وتجاهل بصورة مفجعة ذكر الهولوكوست الصهيونى الهمجى الحالى بحق الأحياء من عرب فلسطين.
لقد كان باستطاعة ذلك المسئول أن يشجب الممارستين ويذكر العالم كله بأن أبناء وأحفاد ضحايا الهولوكوست النازى انقلبوا إلى نازيين محترفين يمارسون نفس الإجرام والفصل والاجتثاث العنصرى، ونفس القتل والحجز فى المعتقلات والسجون، ونفس الاحتقار والكره لمواطنى فلسطين العرب الأصليين من قبل المهاجرين الأغراب الجدد.
وهكذا، نقولها بصدق وإشفاق وحسرة، عرف ممثل المنظمة اليهودية، ذات الأهداف الصهيونية، كيف يحيل مناسبة التفاهم تلك إلى مكاسب للصهيونية العالمية، بينما أحال مسئول الرابطة المناسبة إلى تجاهل تام للصراع العربى الصهيونى الوجودى وعذابات وأحزان شعب فلسطين العربى الشقيق.
دعنا نطرح السؤال التالى: هل ما قام به ذلك المسئول فى الرابطة هو تنفيذ لقرار اتخذته الجمعية العمومية للرابطة وعلمت به الجهات الرسمية العربية والإسلامية التى تدعم تلك الرابطة؟ وبالتالى هل يبارك الأعضاء ذلك المشهد بكل تفاصيله وملابساته وحركاته الرمزية وأقواله المتجاهلة لأحد أهم أهداف الرابطة القائل «بخدمة قضايا العالم الإسلامى»؟ هل محنة شعب وأرض ومقدسات فلسطين قضية من قضايا العالم الإسلامى؟
سؤال صريح آخر: هل نفهم من ذلك المشهد السريالى أنه جزء من خطوات التهيئة المجنونة للتطبيع العلنى غير الخجول مع الكيان الصهيونى والانتقال لتوقيع معاهدات سلام مع الكيان الذى بدأ عتاة منظريه أخيرا يجاهرون ويدعون بأن مكة والمدنية المحيطة بهما هى أرض يهودية فى الأصل، تماما مثل الأرض الفلسطينية، وبالتالى يجب أن تعود إلى حضن أمها الصهيونية؟
الذى يخلطون أوراق التطبيع مع الكيان الصهيونى مع أوراق الصراعات السياسية والمذهبية الطائفية والقبلية، التى ستحرق الأخضر واليابس فى وطن العرب، وفى ما يسمى الشرق الأوسط، هؤلاء يجب أن يعرفوا أن النار ستحرقهم أيضا، وسيعضون على أصابع الندم، يوم لا ينفع البكاء والندم.
لا يستطيع الإنسان أن يصدق بأن جميع علماء وشعوب ودول العالم الإسلامى، الذين ينتمون لتلك الرابطة، سيرضون عن رؤية ذلك المشهد الحزين وتداعياته.