«تطوير الجامعة» تعبير محافظ يفضله القادة والملوك والرؤساء العرب لأنه يعكس رغبتهم فى الابقاء على الفلسفة السياسية التى أودعها اسلافهم فى الميثاق العتيق منذ عام 1945 والتى تعبر عن مصالح الحكام حقيقه فى الانفراد بالسلطة والوصاية على الشعوب أكثر من تعبيرها عن المصالح الحقيقية لتلك الشعوب وتطلعاتها وديناميات حركتها. وفى منظور القادة والحكام فإن أقصى ما يمكن تحقيقه بالتطوير المقصود هو اضافة هياكل ومؤسسات جديدة أو زيادة الميزانيات والرواتب والمناصب الوظيفية إلى المؤسسات القائمة. أما المنظور الشعبى فيتطلع إلى تغيير فى جوهر المبادئ والاهداف والقيم السياسية الحاكمة للعمل العربى المشترك، وتحريرها على نحو يفضى إلى بناء نظام اتحادى عربى يكون فيه مكان لما يسمى (بالسيادة العربية الجماعية) و(للتشريعات والسياسات الموحدة) مع الابقاء على «السيادة القطرية» لفرادى الدول الأعضاء فى حدود لا تتعارض مع النظم والتشريعات والسياسات الاتحادية.
●●●
صحيح أن الملوك والرؤساء العرب قد حاولوا فى قمة تونس عام 2004 استيعاب الدرس العراقى وادعوا أن بإمكانهم ركوب موجة الاصلاح والتحديث التى فجرتها آنذاك الدعاوى الامريكية عن «الشرق الاوسط الجديد» فراحوا يدبجون بيانات واعلانات وعهودًا ومواثيق تتحدث عن التغيير الواجب فى الحياه السياسية والاقتصادية داخل بلدانهم وفيما بينها وعن مفاهيم حقوق الانسان والتعددية السياسية والمشاركة الشعبية والعدالة الاجتماعية، وضرورات تمكين الشباب والمراة وانصاف المجموعات السكانية المهمشة وغير ذلك. وصحيح ان اعتراف القادة والملوك العرب بهذه القيم السياسية كان فى حد ذاته تطورًا جديرًا بالملاحظة ــ وخاصة بالنسبة لبعض البلدان العربية التى كانت تحرم فى ثقافتها المتوارثة الترويج لبعض هذه المفاهيم والشعارات ــ الا ان الأمر لم يفت على كثير من المراقبين السياسيين الذين اكدوا آنذاك أن المسالة ستقف عند هذا الحد من البيان اللغوى، وأن فاقد الشىء لا يمكن ان يعطيه، وأن لعبة اجهاض التغيير بالحديث عنه والتنظير له لعبة قديمة برع فيها العرب كثيرًا وتمرسوا عليها.
●●●
وقد صدق حدس المراقبين حين اختبر البعض فى اول اجتماع لمجلس الجامعة العربية يعقد بعد قمة تونس استعداد النظم السياسية الحاكمة لتفعيل ما ورد فى تلك الوثائق والعهود الجديدة، ومدى الاستعداد لمتابعة هذا التفعيل متابعة جماعية من خلال آليات دورية لرصد وتقييم الاداء، حيث ووجه هذا الرأى برفض شديد من جانب العديد من ممثلى الدول على اساس ان فى هذا الرصد والتقييم الدورى مساسًا بالسيادة الوطنية لفرادى الدول الاعضاء ، وكأن «السيادة» فى اطار العلاقات العربية العربية أكثر قداسة وحساسية منها حين تكون فى اطارات عالمية كمحافل الأمم المتحدة ولجانها المختصة بفحص أوضاع حقوق الانسان . وصدق حدس المراقبين مرة أخرى حين وجدوا أن ما أنشئ فى القمم اللاحقة من مؤسسات وأجهزة جديدة لا تحمل من الديمقراطية والعمل البرلمانى سوى الاسم والعنوان وأن مفاهيم العدالة وحقوق الانسان وتمكين المرأة والتسوية السلمية للمنازعات التى خصصت لها لجان ومجالس وميزانيات وأمانات عامة ما تزال على حالها فى واقع الممارسات العربية وسلوك الحكومات.
وقد أدى استمرار تلك المفارقة بين منظور الحكام ومنظور الشعوب فى تطوير النظام الاقليمى العربى الى تفاقم حالات الحيرة والاحباط لدى المخلصين من العاملين فى الجامعة العربية وإلى شل حركتها، كما أدى الى تدنى صورة العالم العربى عمومًا لدى الاطراف الاجنبية التى راحت تقارن بين هذه النظام الكسيح وغيره من نظم اقليمية نشأ بعضها فى توقيت متزامن ونشأت أخرى فيما بعد لكنها جميعًا تطورت وتفوقت وصار لكل منها حضوره التنظيمى والسياسى الفاعل اقليميًا ودوليًا ــ رغم أن وحداتها القطرية لم تكن تملك من مقومات التكامل والاتحاد مثل ما تمتلكه الدول العربية.
●●●
أعرف أن حديثى هذا قد لا يروق لأغلب قادة وحكام الدول العربية، وأن بعضهم قد يتساءل بسخرية عن مصير القادة الذين حاولوا الترويج لمفهوم الوحدة العربية والذين قدموا طروحات عن «النظام الاتحادى» البديل للجامعة العربية. وأعرف ايضًا أنه حتى القادة الجدد فى الدول العربية التى شهدت تغييرات ثورية منذ عام 2011 لم يفرغوا بعد من شواغل الاستقرار الداخلى فى بلدانهم ولم يترجموا بعد شعاراتهم الثورية إلى سياسات ومواقف خارجية جديدة أو مغايرة. بل لعلى أزعم أن بعض هؤلاء القادة الجدد ليس لهم توجهات عروبية ظاهرة بقدر ما لهم من توجهات دينية تتجاوز حدود القوميات وتمتد إلى آفاق جيو ــ سياسية أبعد وأوسع. ولعل الأعجب فى المشهد السياسى العربى الراهن أن الدول المحافظة التى قاومت رياح التغيير فى بلادها وفى النظام الاقليمى أصبحت هى الأكثر حركية فى المسرح العربى وفى التفاعلات الاقليمية على اختلاف مستوياتها. والأخطر من ذلك أن تلك الدول العربية أخذت تتجه بخمائر الصراعات العربية العربية إلى واجهة المشهد مع انزواء واضح للصراع الأصيل بين ما يسمى «بالحقوق القومية العربية» و«قوى الاستعمار والاستيطان والهيمنة الاجنبية».
●●●
قمة الدوحة.. ومستقبل الجامعة العربية
فى ظلال هذه المشهد العربى المنقسم والمحير انعقدت مؤخرًا قمة الدوحة، وكان الظن ان انعقادها فى تلك الدولة الفتية التى تحمل دبلوماسيتها قسمات الجرأة والحركة غير التقليدية يمكن أن يؤثر فى حصيلة النتائج ومستواها إلا أن واقع الجامعة العربية وإرثها السياسى كان أقوى من الظنون الطيبة، فلم يفلح المجتمعون فى التوصل إلى استراتيجية موحدة للتعامل مع التطورات الأليمة فى سوريا، ولا فى اخراج مسألة التطوير لمنظومة العمل العربى المشترك من اطارها التقليدى المعتاد الذى يركز على انشاء الهياكل واستكمال الآليات دون مراجعة الفلسفات والأسس المعطلة للعمل المشترك ، ولم تحقق القمة إختراقا ذا بال فى معالجة القضية الفلسطينية وتطوراتها . والأهم والأخطر أن القمة اهملت ــ بل كرست حالة الفوضى والتوزع والشك بين ما يسمى (بدول الربيع العربى) والدول المحافظة البعيدة عن هذه الربيع الثورى. فلم يطرح أى برنامج جماعى لدعم اقتصاديات دول المجموعة الاولى أو للتخفيف من ضوائقها المالية، ولم يتم تبنى أى مشروع عربى لمعالجة ظواهر اللجوء والنزوح والتهجير القسرى للسكان فى عموم المنطقة العربية. ويبدو أن القمة كرست أيضًا خصوصية الوضع فى منطقة الخليج وجنوب شبه الجزيرة وكانها منطقة تخرج أو يفترض أن تخرج عن دائرة الاهتمام الجماعى لباقى دول الجامعة العربية.
●●●
وتثير هذه المقدمات وتلك النتائج تساؤلات حقيقية عما إذا كان للجامعة العربية ــ بميثاقها العتيق وآلياتها البيروقراطية وتباين توجهات اعضائها الحاليين ــ مكان فى مستقبل الحياة العربية وهل من الصالح أن تبقى الجامعة فى حدودها ووتيرة حركتها الراهنة مهما تدنت تلك الحدود وتواضعت الوتيرة أم الاصلح اعلان وفاة الجامعة والبحث عن منظومة جديدة أو ربما منظومات متجاورة تحمل كل منها ملامح ومقومات اكثر تجانسًا وأوفر اتفاقًا؟
إن الجمع بين «السالب» و«الموجب» فى علوم الطبيعة يولد بالضرورة طاقة هائلة ومفيدة لكنه فى علوم الاجتماع والسياسة لا يكفل دائمًا نفس النتيجة!
مساعد وزير الخارجية للشئون العربية
ومندوب مصر الاسبق لدى الجامعة العربية