رغم الصعوبات التى صرت أكابدها مؤخرا فى قدرتى على الإبصار والإمساك بالورق والقلم، واضطرارى إلى الاكتفاء بمتابعة القنوات الفضائية العربية إلا أن ما لاحظته مؤخرا فى أداء بعض هذه الصحف والقنوات من نقائص وسلبيات وحقائق مسكوت عنها لم يعد يسمح برفاهية الانتظار حتى أستكمل علاج بصرى المتدهور.
وهناك فى الواقع عدة ملاحظات تستوقفنى فى أداء هذه المصادر الإعلامية، أولها يتصل بالعلاقة بين ما هو «وطنى» وما هو «قومى» وما هو «دولى أو عالمى» فى تغطية تلك المصادر الإعلامية. أما الملاحظة الثانية فتدور حول افتقاد التوازن المفترض والمطلوب فى تغطية الأنباء وتطورات الأحداث فى عموم البلدان العربية، وتتعلق الملاحظة الثالثة بضرورات تطوير الخطاب الدينى فى أداء تلك المصادر.
• • •
فيما يتعلق بالعلاقة بين «الوطنى» و«القومى» و«الدولى» فالواقع أن ما يحدث من لبس أو التباس فى بعض التغطيات إنما يرجع إلى ما تحمله ثقافتنا العربية من تراتبية بين هذه الانتماءات، إذ يرى البعض أن «الوطنى» يحمل بالضرورة أفضلية على ما عداه من تصنيفات وولاءات بينما يرى آخرون أن «الدولى أو العالمى» يفوق فى قيمته وتأثيره كلا من «الوطنى» و«القومى» نظرا لما يحمله من أبعاد إنسانية تتجاوز العناصر الإثنية والقبلية واللغوية والثقافية وهى العناصر المؤهلة للصراعات والخصومات والحروب.
الواقع أن ما يمثله هذا التصنيف الثلاثى للانتماءات من خطورة لا يقع بسبب «التراتبية» وإنما بسبب ما ينعكس منه على مفهوم السيادة الوطنية وقدسية الشئون الداخلية للدولة فى وقت يتجه فيه التنظيم الدولى إلى تقليم أو تقليص هذه السيادة الوطنية لصالح أدوار جديدة صارت تضاف إلى هذا التنظيم الدولى لتجعل منه شريكا إجباريا ومفروضا على الدول الصغرى والدول النامية فى كل ما يتعلق بشئون الاقتصاد والتنمية، وشئون الثقافة والإعلام وانسياب المعلومات، والتسلح، والسياسات السكانية والتعليمية والصحية، وتقييم العملات، وطبيعة العلاقات الوزارية وأوضاع المرأة والأقليات، وطرق انتخاب القيادات. وقد أخذت الدول الكبرى فى استخدام أقصى ما لديها من إمكانيات سياسية وعسكرية واقتصادية فى الضغط على فرادى الدول النامية لتعديل مناهجها المتبعة للتنمية المستقلة، كما بدأت فى نفس الوقت فى التركيز على ظواهر ودرجات الاختلاف بين الدول النامية بهدف تفتيت وحدة حركتها وبما يجعل للدول المتقدمة فرصة تفصيل أو تضييق حجم ونطاق المعونات التى تقدمها تلك الدول فى الحدود والشروط التى تراها.
• • •
الملاحظة الثانية التى تتعلق بالتوازن المفتقد فى تغطية الأحداث والتطورات فى عموم بلادنا العربية، فإن الواقع يقول بأن أغلب التغطيات الإعلامية إنما تركز على عدد محدود من الدول والتجمعات الإقليمية العربية مع إهمال واضح للتطورات التى تحدث فى بقية المناطق العربية، حيث تستأثر السعودية والإمارات ومصر والسودان وربما العراق بأغلب التغطيات الإخبارية وهناك تفسيران لهذا التوازن المفتقد؛ الأول يتعلق بأهمية وحيوية الأدوار التى تلعبها الدول التى تحظى بتغطية أكبر على الساحة العربية واتصالاتها الواسعة مع الأطراف العالمية الأخرى، أما السبب الثانى فربما يرجع إلى كفاءة المراسلين ومبعوثى القنوات والصحف العربية إلى هذه الدول وقدراتهم المتميزة فى التحرك والاتصال والتجديد فى العرض.
وقد تفسر الملاحظة المذكورة سابقا بعض الحقائق والمعارف المسكوت عنها فى بعض مصادر الإعلام العربية ومنها مثلا طبيعة العلاقة وحقيقة المشكلات التى تواجه العلاقات البينية فى منطقة المغرب العربى وحقيقة الأوضاع والمصالح المتشابكة فى العلاقات العراقية الكردية والعلاقات العراقية السورية. ولماذا لا تجرى تغطيات واسعة لكل ما يحدث من تطورات وحراك سياسى وإنجازات تنموية فى بلاد كقطر، وسلطنة عمان والبحرين وموريتانيا؟
ورغم أن الأزمة السودانية تحتل موقعا مهما فى نشرات الأخبار والصحف والقنوات العربية وفى تصريحات ومناشدات المسئولية إلا أن أحدا لا يستطيع الجزم أو الحسم فى تفسير استمرار الأوضاع السودانية كما هى دون حلحلة تذكر ولمدة شهور طويلة.
ويتصل بظاهرة الحقائق المسكوت عنها وعن شرحها ما يلى:
ــ الدور الحقيقى للجامعة العربية فى معالجة أزمات ما يسمى بالربيع العربى.
ــ الحجم الإجمالى للمخصصات المالية وأشكال الإغاثة الأخرى التى تقدمها الدول العربية لمعالجة مشكلات الهجرة غير الشرعية والنزوح الجماعى عبر حدود الدول.
ــ دور البرلمان العربى وأدوار الجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدنى فى معالجة مشكلات البطالة، وانتشار المخدرات، والجريمة المنظمة.
• • •
فيما يتعلق بضرورة تطوير الخطاب الدينى فى إعلامنا العربى وتخليصه من التهويمات والشطحات الموغلة فى الغيبيات فلابد من الإشارة أولا إلى أن المطلوب ليس تنحية الجوانب الإيمانية والغيبية من هذا الخطاب، وإنما تنويع الموضوعات التى يتناولها لتشمل بعض القضايا الحيوية والمجتمعية الهامة التى تساعد فى تقوية مجتمع المؤمنين والمؤمنات وإمداده بعناصر الرشد والواقعية والعلم الصحيح والتخطيط السليم، وليس عيبا أن يقترب أصحاب الخطاب الدينى من منهج الخطاب العقلانى أو العلمانى وخاصة فيما يتعلق بمناطق التصحيح الواجب كشئون الإدارة والعلاقة بين مؤسسات الدولة ونظم التوزيع العادل للموارد، وتحقيق العدالة الاجتماعية وتسيير العلاقات الخارجية مع الأطراف الأجنبية على أسس الإنصاف والتسامح وعدم المبادأة بالعدوان، كذلك لابد أن يشمل التطوير فى منهج الخطاب الدينى ضرورة الاعتراف بما يمكن أن تحققه البشرية عبر تطورها التاريخى من إنجازات علمية وطبية وتكنولوجية.
وقد أزعجنى كثيرا ما استمعت إليه مؤخرا من رأى لأحد علماء الدين الأجلاء يقول فيه إن الله ينهانا عن «التداوى» أى عن معالجة الأمراض بالدواء. وهى هفوة لم يكن أحد يتوقعها من مثل هذا العالم الجليل رحمه الله ورحمنا جميعا.