«لو احنا عندنا مثلا زلزال أو أى حاجة، المفروض الجيش هو اللى يعمل لنا أماكن إيواء.. مش هو اللى يهد بيوتنا».
هكذا يتحدث المواطن.
والمواطن هنا يتصور أنه يعيش فى دولة، يعنى فى كيان تحكمه قوانين عادلة ومفهومة، منها أن مؤسسة القوات المسلحة تتعامل مع المواطن المدنى فقط فى الظروف الاستثنائية ويكون هذا بأمر من الحكومة، وفى العادة لإغاثة عاجلة تصعب على أى مؤسسة أخرى، مثل إقامة أماكن إيواء فى حالات الكوارث.
«احنا لما اتكلمنا مع الظباط وقالوا لنا دى أرضنا؛ طب أرضكوا ازاى واحنا بندفع عليها للإصلاح الزراعى بقالنا تمانين سنة؟». المواطن هنا يتصور ان استلام الدولة لمبالغ مالية على أرض يعنى أن الدولة تعترف بحق المواطن فى هذه الأرض.
والأرض المرة دى فى كفر الأمشوطى؛ قرية تابعة لمركز المنصورة. تعدادها ألف ومائتان بنى آدم. تجاور مطار شاوة العسكرى الذى بنى عام ١٩٦٤، ويفصل بينه وبين القرية جدار. والحكاية كما يحكيها المواطنون ان شابا يبنى بيتا له فى القرية وقعت مشادة بينه وبين أحد ضباط المطار طلب منه رشوة ١٥ ألف جنيه ليسمح له ببناء البيت. (الأهالى يسمون اسم الضابط). الشاب رفض يدفع، الضابط شتمه، الشاب رد له الشتيمة. إلى هنا والمسألة فردية: مواطن قد يكون مخالفا وقد لا يكون، ضابط قد يكون مرتشيا وقد لا يكون، وخناقة يهدد فيها الضابط بأنه سوف «يشيل البلد كلها». لكن ما يحدث هو أن المشكلات بعدها تنزل بالفعل على رأس البلد من المحافظة والوحدة المحلية لمدة ٣ أسابيع، ويوم ١٤ أبريل يأتى خبر للقرية بأن «الإزالة جاية»، فيهب المواطنون ويقفلون الطرق المؤدية للقرية بفروع الأشجار وإطارات الكاوتش المشتعلة.
وهنا تدخل الداخلية الحلبة: تقوم بهدم جزء من جدار المطار الملاصق للقرية وتقتحم الداخلية والشرطة العسكرية القرية باللوادر والخرزانات والعصى والقنابل (صناعة الأصدقاء فى بنسلفانيا ومستوردة فى الأغلب عن طريق شركة الخدمات الأمنية جى فور إس) المسيلة للدموع. وداخل المطار، على الهامش، ينقلب أحد لوارى الأمن المتجه إلى القرية فيموت فيه مجند غلبان ويصاب ستة آخرون.
ضربوا البلد وهدموا البيوت - وفيها بيوت مرخصة بها عدادات مية ونور - أحد البيوت كان أمر إزالته للدور الثانى فقط وجاء أمر الجيش «سووه بالأرض» - بيتين هدموا فى السكة على الماشى لأن الطريق كان ضيق على اللوادر - شردوا المواطنين، والبيوت والحظائر والعشش ولعت، ورفضوا رجوات المواطنين بأن يسمح للمطافى بإطفاء الحرائق (الناس تقول لهم هِدّوا، هدوا بس عدوا المطافى)، رفضوا السماح بإطفاء الحريق واحتجزوا عشوائيا ثلاثين بنى آدم خدوهم جوه المطار واتسلوا عليهم أثناء الليل، والصبح تركوا بعضهم فانتهوا بثمانية محتجزين، أربعة من قرى أخرى، واثنان من الخفراء، وواحد أمهق (لا يرى فى نور الشمس).. تقول سيدة «زقلنا طوب آه صحيح بس من بهدلتهم فينا وفى أطفالنا. عيل عنده ١٢ سنة ياخدوه يعملوا بيه إيه؟» سيدة أخرى تقول «إحنا مصريين ماحناش إسرائيليين».
يقول مواطن: «كل ما نتكلم يقولولنا الجيش خط أحمر ماحدش يتكلم مع الجيش. نتكلم مع الداخلية الجيش والداخلية بيضربوا فينا. بيضربونا بالقنابل المسيلة للدموع يموتونا احنا وعيالنا فى قلب البيوت. مين هيجيب لنا حقنا؟.. ظباط المباحث مافيش حد قادر يكلمهم خالص… بيقول لك ظابط مباحث اتعَوَّر. طالما ظابط مباحث اتعور البلد كلها ماتنامش فى البلد. احنا بنام فى الأراضى… هنعمل إيه احنا عشان خاطر نرضى الحكومة؟ نرضى المحافظ ومدير الأمن؟ نعمل لهم إيه؟ ورئيس المطار؟ والظابط المحترم المرتشى؟ نعمل لهم إيه؟ الظابط المحترم. هو واحد هيعلم البلد الأدب. عشان إيه؟ عشان متحامى فى وظيفته. يقول لك الجيش خط أحمر».
ويشهد شهود أن النيابة حققت مع المحتجزين فى وجود الضباط، وفى ١٧ أبريل أخدوا الـ١٥ يوما التى نعرفها جيدا على ذمة التحقيق، وفى ٢٢ أبريل لم تنجح محاولات الاستئناف، وفى ٢ مايو تم تجديد الحبس ١٥ يوما جديدة. وتجمهر أهالى المحابيس، سيدات تلطم وسيدات تتوعد ورجال يلوحون والكلمة الغالبة: ظلم، ظلم، ظلم وظلمة.
يقول المواطن الذى بدأت به: «المتحدث الرسمى باسم الجيش بيقول على التليفزيون احنا لو أرض فيها ناس معاهم عقودات احنا مانقدرش نتعدى عليها. طب ازاى المتحدث باسم الجيش يقول كده على التليفزيون وهم يعملوا كده فينا؟» والمواطن هنا يفترض أن الأصل فى الأمور الاتساق بين القول والفعل، وبالذات طبعا لو كان القول من متحدث رسمى لعمود من أعمدة الدولة وعلى الملأ أمام البلد كلها فى الإعلام: عمود آخر من أعمدة الدولة.
المرّة دى فى كفر الأمشوطى، مركز المنصورة. المرة اللى فاتت كان فى جزيرة القرصاية، فى الجيزة. والمرة اللى قبلها كان فى رملة بولاق فى القاهرة. نفس السيناريو، ونفس الفاعل وإن اختلفت الأجهزة. كل هذه القصص تستحضر للذهن تعامل الاحتلال: تسخير القانون لخدمة السلطة، العقاب الجماعى، الانتقام والردع بنسبة عدد كبير من المواطنين لقاء فرد سلطة واحد.
أذكر دنشواى.
وأذكر اليوم التعامل الإسرائيلى مع الفلسطينيين: استيلاء القوات المسلحة على الأراضى بحجة «المنفعة العامة» ثم البطش بالمواطنين أصحاب الأراضى. هدم البيوت - مع استعمال أحيانا حجة أنها غير مرخصة - واحتجاز المواطنين حين يعترضون أو يقاومون. تدمير الملكيات الخاصة مثل حرق الزراعات أو اقتلاع أشجار الزيتون - ولو انى لا أذكر ان الجيش الإسرائيلى قام بحرق المواشى فى الحظائر أو الطيور فى العشش. الاحتجاز العشوائى لمواطنين متواجدين فى محيط منطقة المواجهة والتنكيل بهم، وتفعيل آليات لحبسهم ثم تجديد حبسهم. تعاون مؤسسات الدولة - القوات المسلحة، والداخلية والنيابة والقضاء - على قهر المواطن، فى إطار جو انتقامى ينضح بالغل والكراهية.
يقول أهل القرية إنه اذا أرادت القوات المسلحة ان تضع يدها على الارض لدواعٍ امنية او لعمل توسعات بمطار شاوة العسكرى فعليهم تعويض اصحاب الاراضى عن ثمنها بسعر اليوم وتعويضهم عن الاضرار التى لحقت بهم والخسائر المادية جراء الحملة الامنية التى نفذتها مديرية امن الدقهلية مساء امس وازالت فيها عشرات المنازل المقامة على هذه الاراضى.
فى بدايات رواية «توقعات عظيمة» لتشارلز ديكنز، يختطف المحكوم الهارب، ماجيتش، الطفل الصغير، بِب (الذى سيكبر ويكون بطل الرواية) ويروعه لكى يأتى له بما يأكل. وفى هذا المشهد تفصيلة كثيرا ما تعاودنى فى ظروفنا الحالية؛ فالمشهد - كما أذكره - يحدث مع اقتراب الليل، وفى منطقة برارى موحشة يحاول بِب اجتيازها إلى أمان البيت قبل أن تظلم الدنيا تماما، وماجيتش، السجين الهارب، شرس، رث الهيئة، يهاجم بِب ذى الست سنوات فيمسك به من قدميه يدليه فى الهواء لا تلامس رأسه الأرض، يَرُجُّه ويستنطقه بعنف وتهديد حول هويته وظروفه قبل أن يطالبه بأن يسرق له أكلا. وبِب فى هذه الظروف الاستثنائية، وهو يرتج ومقلوب - حرفيا - رأسا على عقب، يرد على استجواب ماجيتش له بأدب اجتماعى طبيعى وإن كان منذعرا مشدوها. لا يعرف كيف يتعامل إلا فى إطار الأعراف التى يعرفها.
حين تتساءل الأم الفلسطينية إن كانت أم المجند الشاب الإسرائيلى تدرى ما يقوم به ابنها، حين يفترض المواطن مطابقة خطاب المتحدث الرسمى للواقع، هم يصرون على أن يعيشوا ويتعاملوا فى إطار إنسانى متحضر، يُفترض فيه أن الأم تمنع ابنها عن فعل الشر، وأن المتحدث الرسمى باسم مؤسسة خطيرة ينطق بالحق - بالرغم من أن كل الشواهد تشهد بغياب هذا الإطار، وبأن الأمور كلها مقلوبة رأسا على عقب، ولا رءوسنا ولا أقدامنا تلامس الأرض، وأننا ربما نعيش زمنا لا يرى هذا الإطار الإنسانى المشترك أصلا إلا الغلابة وأهل الثورة الحقيقيين.
أما الدولة، التى هى فى الأساس - وبالذات إن كانت بالصندوق - سبيل التعبير عن هذا الإطار الإنسانى الاجتماعى المتفق عليه وتحقيقه، فهى (والمحتل)، تتحرش بالمواطن، تقلبه، تمارس عليه البلطجة والابتزاز، فيصبح السؤال ملحا: هل نعيش فعلا فى دولة؟ وإن كنا نعيش فى دولة، فهل تعادى هذه الدولة الشعب؟ أم نحن نعيش الآن بلا دولة، وسط مجموعة كيانات طفيلية، تكره الشعب وتراه غنيمة تمتص دماءه وتعيش عليها وتحاول سحقه يوم يقاوم؟ أم هل الدولة نفسها، بالمفاهيم والآليات المتاحة، هى كيان طفيلى علينا أن نعيد النظر فيه؟