منذ أعوامٍ خَلَت، كان برنامج الكاميرا الخفِيَّة مثارَ إعجابٍ شديد لا بين الصغار وحدهم، بل وبين شرائح واسعة من الكبار؛ إذ اعتمدت فكرته على خدع مضحكة، يتم تصوير الضيفِ خلالها ورصد ردِّ فعله. كانت أغنيةُ البرنامج الشهيرة تؤكد أن: "اللقطات اللي واخدينها كلها طبيعية" لا تمثيل فيها ولا ادعاء؛ لقطةٌ تسجِّل الخَوفَ وأخرى مُعبأة بالغَضب وثالثةٌ عامرةٌ بالدهشة، ومُعظمها ينتهي بابتساماتٍ ومُصافحاتٍ مع انجلاءِ الموقفِ وتفسيره. لم تعد مثل هذه اللقطات مُثيرةً بقدر ما كانت، فالمَقلبُ بات مُكررًا غالبَ الأحيان، ومشاعر الناس لم تعد نضرةً طازجة؛ إنما دهستها صعوبةُ الحياةِ ومشقتُها، وحولتها إلى أجزاءٍ مبتورةٍ فاترة. نصفُ ابتسامةٍ وظلُّ تكشيرةٍ، وبعضُ علاماتِ التعجُّب التي سرعان ما تتلاشى.
• • •
تذكر معاجمُ اللغةِ العربيةِ أن الَّلقطةَ بفتحِ اللام اسمُ مرَّة من الفعل لَقَط الذي يعني أخذ صورة، أما الُّلقطة بضمِّ اللام وتشديدها فتشير إلى ما أُخِذ مِن على الأرضِ دون تَعَبٍ أو جهد، وفي الاستخدام اليومِيّ الشائع تُوصَف الفرصةِ النادرةِ التي ينتهزها المرءُ ويفوز بها بأنها لُقطةٌ، وإذا لقط المرءُ الثوبَ كان المعنى رقَّعه، أما لفظة "ملقاط" فتشير إلى أداةٍ مُخصَّصة لالتقاطِ الأشياءِ الصغيرةِ التي تعجز الأصابعُ عن الإمساك بها.
• • •
بعضُ الناسِ لا يهتم بالجوهر إنما بما لاحَ للعيان. ربما اعتصرت القلبَ كآبةٌ وغمرَ النفسَ ضيقٌ؛ لكن اللقطةَ التي يراها الآخرون لابد وأن تكونَ ملأى بالسَّعادة، ظاهرها السرور والانتشاء. هذا الذي يضع في حساباته توقُّعاتِ مَن يُحيطون به، ولا ينفكّ يفكِّر في انطباعاتِهم عنه، ويكره إن عرفَ أحدهم بأزمةٍ قد أصابته أو نكبةٍ وضعت أوزارَها فوق رأسه؛ إنما يعاني أشدَّ المُعاناة، إذ السعيُ لاصطناعِ لقطةٍ مثاليةٍ يُزيد الضَغطَ والتوتُّر ويُضيفُ عبئًا جديدًا للحياة.
• • •
يضحك الناسُ في العادةِ أمامَ العدسة، يحاولون إعطاءَها أفضلَ لقطةٍ، تلك التي سيخلدها الزمنُ فتصبح شاهدًا أبديًا على حالِهم وقتَ التصوير. بعضُ المراتِ تلتقطُ العدساتُ ما يفضح السرائرَ ويكشفُ الحقائقَ، لكن العينَ في هذا المضمار أقدر إذ هي عدسةٌ دقيقةٌ ماهرةٌ وفائقة الحساسيةِ، تلمح التفصيلاتِ الدقيقةِ وتلتقطُ ما يهمُّها ثم تُسقِطُ ما لا فائدة منه. ثمَّة لقطةٌ مُبهِرةٌ تُسجِّلها الذاكرةُ ولا تسلاها، ولقطاتٌ كثيرةٌ عابرةٌ لا يبقى منها أثر.
• • •
مِن المُمثلين مَن إذا حضر وأدى، تجلَّى بهاؤُه وأضاءَ حضورُه؛ فخبا إلى جانبِه الآخرون. يُوصَف المُمثلُ مِن هؤلاء بأنه كالغول؛ يأكلُ الَّلقطةَ ويتسيَّد المَشهدَ، يجذب أنظارَ المُشاهدين بتمكُّنِه واقتدارِه فكأنه مُنفَرِدٌ بالساحةِ، يحصد آهاتِ الإعجابِ ويَحرِم منها مَن هم دونه. لقطةٌ سريعةٌ تفرِّق بين مُمثلٍ وآخر، لا يحتاجُ الأمرُ دقائقَ مُمتدة ولا ساعات؛ اللقطةُ وحدها تكفي وتفيض.
• • •
عشِقت الصورَ العتيقةَ التي لا تُرى فيها درجاتٌ لونيةٌ سوى للأبيضِ والأسود؛ إذ لها سحر خاص يجاوز ما للألوان مجتمعة. يُضفي الرماديُّ على اللقطة شجنًا مُوغلًا في القدم، وعمقًا يمسُّ الروحَ ويدغدغها. أعيد بين الحين والآخر تأمُّل ما احتفظت به من لقطاتٍ هادئةٍ تخلو من الصخبِ؛ ألجأ إلى نفي اللون كلما احتاجت عيناي إلى راحةٍ وبراح.
• • •
في زمنٍ غير الزمن، كانت اللقطةُ التي تُستخدَم فيها الكاميرا العادية بمنزلةِ حكمٍ نهائيّ. ربما بعض الرتوش تُضافُ بجهد وحرفة، لكن الأمرَ يخلو مِن تحولاتٍ كُبرى. اختلفت الحالُ وتطورت؛ فصار بالإمكان أن تتبدَّلَ اللقطاتُ وتتحوَّل إلى أخرى؛ كأن يُضافُ إليها أشخاصٌ ويُنتقَص منها آخرون. طالعتنا منذ أعوامٍ لقطاتٌ نشرتها جريدةٌ ذائعة الصيت لها ثِقَلٌ لا يُنكَر، هذه اللقطاتُ قد تغيَّر فيها ترتيبُ السائرين فتقدَّم مَن كان قد تأخر، وحلَّ ثانيًا من تصدَّر في واقعِ الأمر اللقطة. كان العبثُ مَفضوحًا والحقيقةُ مُسجَّلةٌ مَعروفة واللقطاتُ المُوازية منشورة، والتبريرُ من الهَزلِ بمكان.
• • •
اللقطة تاريخ ووثيقة والحذر إزاءها واجب، فالمحو لم يعد مأمونَ العاقبة والتلاعب صار بمنزلة فضيحة.