في مُهاتفة عابرةٍ لصديقٍ قديم؛ دار الحديثُ حول الأوضاع المُتدهورةِ التي صار إليها الناسُ، ولما تشعَّب الكلامُ حول مظاهرِها، أفضى لي بأنه تعرَّض لبعضِ اللصوص؛ قام أحدهم بخَلعِ حَوامِل المُكيفات من الدور الأرضيّ، وخَلعَ آخر غطاءَ البالوعةِ القريبة وغيرها، وقد انتهت المكالمةُ بيننا بالتفكير في سُبُل التأمين المُمكنة؛ إذ الحالُ مُرشحةٌ للتفاقُم.
• • •
يأتي الفعلُ خَلَعَ في قواميسِ الُّلغة العربية بمعنى نَزَعَ؛ خَلعَ غطاءَ العلبةِ أيّ أزالَه، وخَلعَ ملابسَه أيّ طرحَها عنه، وخَلَع الشجر أيّ سَقطت أوراقه. الفاعلُ خالِع والمَفعولُ به مَخلوع والمَصدر هو الخَلْع بفتح الخاءِ وتسكينِ اللام.
• • •
رغم أن الخِلاعةَ مصدر آخرٌ من الفِعل وأن الخليعَ بدوره مَفعول؛ فقد درجنا على إضفاءِ لونٍ من الاحتقار والاستياء على الكلمتين ما استخدمناهما، وجعلنا الوصفَ بهما علامةً على سوءِ الخُلُق فإذا قيل إن فلانًا خليع، تصوَّر السامعون أنه شخصٌ مُتهتكٌ قليلُ الحياءِ كثير الميوعة. أذكر التساؤلَ الاستنكاريَّ الطريف: هو في رَقص خليع ورَقص مش خليع؟ الذي أطلقته سونيا أو الفنانة نبيلة عبيد في فيلم الراقصة والسياسيّ؛ لتفتح به بابًا مِن التساؤلاتِ الجادةِ حولَ طبائع السَّاسة، وحقيقةِ المُسمَّيات التي نتداولها والمعاني المُتوارية التي نتجاهلها. الفيلمُ قصةُ إحسان عبد القدوس، سيناريو وحوار وحيد حامد، وإخراج سمير سيف، وقد عرِضَ عام ألف وتسعمائة وتسعين.
• • •
في مسرحية ريَّة وسكينة، وردت العبارةُ الشهيرة: "قدَّامي ليكون حدّ من الحريم خالع رأسه"على لسان عبد العال، قاصدًا بها الاحتراز من وجود وضعٍ غير لائق؛ قد يُصادفه أثناء معاينته المكان. تقاسم الفنان أحمد بدير بطولةَ المسرحيةِ مع العمالقة عبد المنعم مدبولي وسهير البابلي، وشادية التي حلَّت منافِسةً قويةً رغم حداثة عهدها بالمَسرح، وعلق دورها بالأذهان تاركًا بصمته البَهيجة على المتفرجين.
• • •
المخلوعاتُ المجازيةُ مُتنوعةٌ وفيرة؛ فإذا قال واحد إن قلبَه مَخلوع كانت قولتُه كنايةً عن اللوْعَة؛ لوْعة الفُراقِ مثلًا، وربما انخَلع القلبُ في سياقٍ آخر مُعبرًا عن صورةٍ من صور الرُّعب والفزَع، وقد ينجو القلبُ فيما تُصاب أعضاءٌ أخرى، فيصفُ المرءُ حالَ إرهاقٍ شديدةٍ تحول دون وقوفه؛ قائلًا إن أرجُله مُخلَّعه.
• • •
تفور مناطقٌ متعددةٌ من العالم بالأزماتِ مؤخرًا، وتنبذ ما استقرَّت عليه من أوضاع. ثمَّة ما نقرأ عنه ونسمع في بلدان مثل النيجر والجابون ومن قبلهما السودان؛ حيث يتعرضُ الحكَّام للاستبعادِ من مَناصبِهم وتدور الأنباءُ حولَهم في فلك الإقصاءِ والانقلابِ وبعض الأحيان الاغتيال والاختفاء. يُورد قاموسُ المعاني عبارة: خَلعَ الشَّعبُ المَلِكَ؛ والقَّصد أنزَلَه عن عَرشِه، ولقد تكاثر المَخلوعون في الوَقت الرَّاهن؛ لكن الوسيلةَ التي يَذكرها القاموسُ غير دقيقة؛ إذ لم تعد للشعوب يدٌ عليا في عمليةِ التغيير، ولم تعد كلمتُها مُدويَّة حاسمة، والأملُ أن ترجعَ الأمور إلى نصابها خلال أزمنةٍ قادمة، وأن يتولى الناسُ المَقود ويُسهموا في صنع مُقدراتهم.
• • •
يُشير مصطلح الخُلع بضمّ الخاء إلى عملية تراضي واتفاق، ينفصلُ خلالها الزوجان انفصالًا رسميًا،؛ بعد أن تردَّ المرأةُ للرَّجل ماله. قدَّم هذا التشريع حلًا لتعقيدات بالغة مُستحكِمة، وأفسح هامشًا لإرساء العدالةِ والحفاظِ على الحريَّة؛ وإن لم تزَلْ في قوانين الأحوالِ الشخصيَّة ثغراتٌ ومثالب يُرثى لها، وحقوقٌ تائهة وأخرى مَغبونة.
• • •
ربما لا يستريح الواحد إلى أمرٍ كان قد بدأه، وإذا به يتخذ قرارًا حاسمًا بأن "يخلع" مِنه؛ والقصد أن ينفصلَ عنه كلية. كثيرًا ما نستخدم هذا التعبيرَ وهو ليس بقديم، وكثيرًا ما "نخلع" أنفسنا من مَواقف ينتابنا حيالها إحساسٌ بالتورُّط الوَشيك؛ فنتنصَّل من الالتزام بها، ونفضل أن نتحملَ اللومَ عن مَخاطرِ الاستمرار.
• • •
ربما خَلعَت الأيامُ على فلان حكمتَها، فأنضجته وأهدته الخبرةَ والرزانة؛ والمُراد هنا إضافة لا إزالةٌ أو نزع. لا تتظاهر الأيامُ بما ليس مِنها ولا تزيِّف واقعَها على عكسِ البشر، وأكم مِن مراتٍ خلع فيها امرؤٌ على نفسِه ثوبًا ليس له؛ فادعي الشرفَ وهو عنه بَعيد، أو زَعمَ الشَّجاعةَ وهو إلى الجُّبن أقرب، وربما ارتدى مُسوحَ التقوى والصَّلاح؛ وهو أفسد مَن في مُحيطِه وأضلّهم سعيًا.
• • •
يُمكن المُرور بأفعالٍ كثيرة تصِفُ تحويلَ المساحاتِ الخضراءِ إلى جَدب. هناك خَلْع الزَّرع، واقتلاعه، واجتثاثه، وثمَّة مَراحلٌ أعتى يتم فيها تجريفُ الأرضِ ورفعِ طبقاتٍ مُتتالية من السَّطح؛ يستحيل بعدها العثور على جِذرٍ أو استنباتِ زَهرٍ أو عشْب، وإذا كان الشيءُ بالشيء يُذكَر، فبعض الناسِ ينخلع من جُذورِه، يَهجرها ويَتناساها، وقد يمد غيرَها وينغرسُ في تربةٍ أخرى؛ تتبدَّى لعينيه أكثرَ مُلائمةً وخصُوبة.
• • •
خَلْع الحذاءِ بمنزلة احترامٍ لطقسِ الصلاة، وخَلعه عند بابِ المَنزل وقايةٌ مِن مُلوثاتٍ تحفلُ بها الشوارع، وإذ تأمر الآية القرآنية مُوسى بخلْع نَعليه؛ فمهابة وتَوقير للمكانِ المُقدَّس الذي وطأه، وأما عن خَلْع القُّبعة؛ ففي غالبِ الأحيان تحيةٌ صادقةٌ ما لم يرمِها صاحبُها أرضًا.
• • •
يُقال في بعضِ المواقفِ إن فلانًا قد خَلعَ برقعَ الحياء، والمعنى أنه ارتكب عامدًا ما يُشين، دون أن يطرفَ له جَفنٌ أو تصيبُه مشاعر الخَجل، والحقُّ أننا نصادفُ كلَّ يومٍ من لا يَملِكون من الأصلِ بُرقعًا ولا يحتاجون بالتالي إلى خلعِه، يقترفون فعلًا تلو آخر، ولا تُرى على وُجوهِهم المَكشوفة علامةَ استحياءٍ أو نتفةَ حَرج.
• • •
ثمَّة أمور شديدةُ الصُّعوبة، عصيَّةٌ على الإنجاز؛ لكنها مُثمنةٌ مَرغوبة، يكافح الواحد في سَبيل تحقيقِها ولو بخَلعِ الضِّرس، والحقُّ أن ألمَ الضُّروس والأسنانِ شاقٌ عَصيب، واختيارها لضَربِ المثلِ مُوفقٌ مَحسوس.