إذا ارتكب واحدٌ فعلًا قبيحًا، قِيل له "يخزيك"؛ دعاءٌ مُباشر بأن يتعرَّضَ للفَضح وأن ينكشِفَ أمام الناس؛ فيصبح في مَوقًف مُخجِل مُهين، لا يتمناه أحد.
***
الخِزْيُ في معاجم اللغة العربية هو الهَوان، وخَزِيَ المرءُ بمعنى هان، أو وقع في بَليَّة وشَرٍّ أورداه مَورِد الإذلال. أَخْزَيْته أَي فَضَحته، والخِزْيُ بمنزلة الفَضيحة، ويُقال خَزِيَ الرجلُ إِذا افْتَضَح أمره وتَحيَّر، ويشير الخِزي أيضًا إلى الندامةِ والأسفِ على ما وقع، بينما تأتي الخَزايةً مِن الاستحياء؛ فإذا خَزيت فلانًا فقد اسْتَحييت منه.
***
بعضُ المَرات تقسو الظروفُ وتُجبِر الناسَ على قبول ما لا يريدون، وتجعلهم في حالٍ مِن الخَجَل والضِّيق؛ لا يستطيعون منها فكاكًا. رأيت مَن يؤدي عملًا لا يُلائم وضعَه الذي يستحقُّ، ولا يتناسب مع ما أتقنَ مِن مَهارات، ولا يليق بتعريفِه في بطاقةِ الهُوية وتَوصِيفه، وما يُفترَض أن يضطلعَ به مِن مَهام وأدوار؛ لا لخيبة ذاتية أو فشل حقَّقَه بيديه، بل لأن ثمَّة مَن يَفرض عليه هذا العملَ وما دونه. الخزيُ يُكلِّل النظراتِ، والذُلُّ في لُغةِ الجَسد المُستكينِ واضحٌ لكُل ذي عينين.
***
كثيرًا ما تساءَلت، ترى أي مَهانة تنال باحثٌ أو خريجٌ جامعيّ؛ يجلس القرفصاءَ أمام أقفاص الخضروات مُنتظرًا المتسوقين؟ أي خزي ينال مِن نفسه ويقوض عزمه؟ يُقال إن كُلَّ عملٍ شريف وسامٌ على الصدر، لكنها قَولة حقّ يُراد بها باطل ولا شكّ، فمِن الناس مَن بذل جهدًا عظيمًا للوصول إلي مَرتبةٍ بعينها، ومَن صبر في سبيلِها صبرًا طويلًا، وتجرَّع الحلقمَ كي يَجدَ في نهاية المَشقَّة ما يُرطِّب الريقَ؛ لكن انعدام الرؤية عند المسئولين يُزيِّن القبيحَ مِن الأفكار ويُثمِّن فاسدَها، ويهدر سنواتِ العمر.
***
يقول ميخائيل نعيمة: أخي! من نحن؟ لا وطن ولا أهل ولا جار إذا نمنا، فإذا قمنا؛ رِدانا الخزي والعارُ. يصير الهوان بعض الأحيان ملازمًا للمرء لا يتخلى عنه، مثله مثل ردائه، يلبسه في صحوه ويتحرك به ويمارس حياته في وجوده؛ وكأنه صار جزء أصيلا منه. الكلمات شارحة نفسها، موفية حقها، والحال تستدعيها وتصور أحرفها بلا نقصان، بل وتزيد عليها ألمًا فوق الألم وذلًا بلا نهاية.
***
تحمل مُفردة الخِزي ما تقارب مِن المَعاني وامتزج؛ فالمَهانة والذُل والفَضح والنَدامة، تندرج جميعُها في إطار واحد، تُسلِّم كُل مِنها لرفيقتها وتؤدي إليها؛ سواءً عن طريقٍ مُباشرة أو فرعية. كثيرةٌ هي الأفعالُ المُخزية التي تضُمُّ بين جنباتها المَعاني السابقة كافة؛ فخطاباتٌ مُلونة بالكذِب، واستهتار بحيواتِ البَشر، وإراقةٌ لكل جَميل، ثم إسرافٌ في غير مَحلِّه واستهتار؛ أرضٌ تُهدر ومَوارد لا تُصان، وبؤسٌ مَصنوع بجدارة. كثيرون هم مَن حَفظَ التاريخُ أسماءَهم وأعمالَهم؛ تلازمُها صفةُ الخِزي ويلاحقُها العار. ثمَّة مَن ينهض بالغارق، ومَن يُغرِق الطافيَ ويصنع ما يُخزيه في صحوه فيُرافقه لما بعد المَمَات.
***
رغم هذا؛ لا يَصِف الخِزيُ حالًا سلبيةً على الدوام، فأحيانًا ما تُستَخدَم الكلمةُ في أغراضِ المديح، وقديمًا كان الناسُ يتحادثون عن أشعر مَن فيهم قائلين: أخزاه اللهُ، أي أهانه. القولُ هنا إشارةُ استحسانٍ لقوةِ البيان؛ فما أتى به الشاعرُ المُتمكِّن يستحقُ كَيلَ الثناء وينتزع آيات التبجيل، ويَتَطلَّب وقايته من الحسد، وفي السياقِ ذاتِه؛ كانت القصائدُ المُتفرِّدة في مَتانة أسلوبها وقوتها، تُوصَف بأنها مُخزِية؛ دلالة على مكانة مُنشِدِها.
***
"يَخزي العَين" بمعنى يدرأ شرَّها ويُحبِط الحَسَدَ النابعَ منها ويَمنعه. التعبيرُ مُستخدَم بكثرة في الثقافة الشعبيَّة، وهناك مَن لا يزال يرفع كَفَّه في حَضرةِ آخرين؛ بمُواجهتِهم أو مِن وراءِ ظُهورهم؛ درءًا لنظراتٍ مُؤذية تحملُ السُّوء. هناك أيضًا مَن يلجأ لادعاء المَرَض كي يَخزي الأعيُنَ عنه بعد تحقيق نجاحٍ مَشهود، وهناك مَن يُؤمن بالرقية مِن شرورِ الحاسدين وصنائعهم، ومَن يُخوزق عينيّ عروس مِن الورق بالإبر ليخزيَ الأعداءَ ويُحبِط المكائدَ التي يحوكون. في هذا الإطار؛ قد تمنع الأمُ أبناءَها عن التباهي بما أنجزوا، وتَصِفهم بما ليس حقيقيًا فيهم، وتحكي عنهم ما يجافي أمرَهم بل ويُناقضه. تلجأ عن قَصدٍ وتدبير إلى رَسمِ صورةٍ أقلَّ بهاءً ونجاحًا؛ مُتيقِّنة مِن أنها تحميهم وتخزي الأعيُنَ المُتحفِّزة تجاههم، وتقيهم أثرَها.
***
مصدر الخِزي في العادة مَوقِفٌ وعِر عَصيب؛ والجَهرُ به وإعلانه بين الناس يضاعفان وقعَه. تتواتر في الصُحف أخبارٌ عن انتحار أشخاص مِن مَراحل سنِّية مُتباينة. القاسمُ المُشترك بين كثيرهم إحساسٌ هائلٌ بالخِزي والهوان؛ مَنبعه الاحتياج وعدم القُدرة على توفير مَعيشة مَقبولة؛ خاصة في وجود عائلةٍ ومَسئوليات. تتفاقم الحالُ وتتعاظم كُلما فكَّر واحدٌ مِن هؤلاء بحجم الإهانةِ التي يتلقاها يوميًا ويعجز عن تجنُّبِها أو ردِّها. إهانةٌ تدفع الإنسانَ إلى إنهاءِ وجوده؛ فغيابٌ تام خير مِن خِزيان دائم.
***
يقول أبو تمام: رأيت الحُرَّ يجتنب المخازي.. ويحميه عن الغدر الوفاءُ. الحُرُّ عند أبي تمام قادر على الاختيار، واختياراته تنحو إلى ما يصون الكرامة ويعززها، لا إلى ما يستجلب الخزي والهوان. ثمة استثناء من هذه القاعدة؛ فبعض من يتمتعون بالحرية ظاهرًا، يتخيرون بإرادتهم ما فيه إراقة للكرامة وهدر للكبرياء، لا تغريهم حريتهم بمحاولة استعمالها واختبارها، إنما بجعلها أداة زينة تلوكها الأفواه وتعجز عن تجسيدها الأفعال.