اليوم ينتهى عام وسط السؤال التقليدى «كيف مرت الأيام؟ أين ذهب الوقت؟ هل ستكون السنة القادمة أقل قسوة؟ أكثر حنية؟» فى نهاية كل عام أستمتع بالتقاط تعليقات من حولى حول أيام كانت أجمل ومراحل كانت أكثر تفاؤلا وأصدقاء رحلوا كانوا أكثر صدقا ووفاء. أحب كثيرا صور الزمن الجميل وأحاديث من عاصر ذلك الزمن أو عاش مع من عاصروه فصار يمتلك القصة وكأنه كان جزءا منها. أحب الصور القديمة وأستمتع بتفاصيل عن القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد والحياة السياسية فيها جميعا ونظافة شوارعها ورقى مجتمعاتها وثقافة ناسها، على حد قول من عاش الأزمان الجميلة. أعرف أن بعض الزمن الجميل كان جميلا فعلا، خصوصا ذلك الذى أظهرته الأفلام. أعرف أيضا أن بعضه مما لم يظهر على الشاشات لم يكن بهذا الرقى ولا بتلك الرومانسية. لكن فى آخر كل سنة، أسمح لنفسى أن أشتاق لفترات لم أعشها إنما ورثت قصصها حتى شكلت لى ذاكرة بصرية دون أن أكون قد تواجدت فيها قط.
•••
فى آخر السنة أقرأ الكثير عما كان، بعضه مكتوب بحب والبعض الآخر برثاء: رثاء أوقات لن تتكرر، طبعا فلا تكرار فى الزمن، لماذا إذا يدخل الشجن إلى القلوب كالفيضان فى آخر السنة؟ ربما لأن انتهاء عام من العمر يأتى كالصفعة، وكأننى أنتظر من الزمن أن يبطئ حين يصلنى فلا أستعجل فى الحياة كما رأيت غيرى يجرى فيها. قد يعطينا القدر أحيانا إشارة باهتة فلا نلتفت إليها. يعود القدر ويرمينا بتحذير أوضح لا نعره اهتماما أيضا. فى المرة التالية يرسل القدر صفعة تنهال على الوجه فتفقدنا التوازن. نتحسس الخد الذى تلقى الضربة ونتساءل عما استدعى كل هذا العنف!.
•••
لماذا لم أتوقف عند أول إشارة والثانية، لا بل استمريت حتى نلت الصفعة؟ اليوم ينتهى عام أجبر نفسى على كتابة الكثير من تفاصيله لأننى قررت أن أتمشى بدل أن أجرى فأتأمل ما حولى بدل أن أمر على التفاصيل وكأننى أمسك آلة التصوير من شباك القطار. الزمن ربما كله جميل هذا العام، كما هو الحال كل عام، ربما الجمال والبشاعة متساويان فى كل الأوقات وما يختلف هو تلقينا لما حولنا.
•••
ما علينا، لنقل أن قدرة الفرد على تلقى وتقبل الجمال والبشاعة تختلف مع تنقله بين المراحل العمرية. فها أنا أصبح أكثر حنينا لأحياء عشت فيها وتذمرت منها فى وقتها إنما أشتاق إليها اليوم وأصفها كما وصفها من عاش فيها فى فترات سابقة ورأى فيها جمالا كانت الأحياء قد فقدته حين وصلت أنا إليها. فى دمشق والقاهرة وبيروت، المدن الثلاث الأقرب إلى قلبى، عشت ما بعد فتراتها الذهبية، أنا عاصرت هذه المدن فى فترات انحطاط لا ازدهار، برغم بعض الانفتاح الاقتصادى فيها جميعها هنا وهناك إلا أننى لم أعش فترات كتلك التى سمعت عنها من أسلافى وممن سبقونى إلى حب هذه المدن.
•••
اليوم إذا أراقب ما حولى بتمعن أكثر وأتنفس بشكل أعمق، أستوعب التفاصيل وأبطئ من اندفاعى فى التفاعل. أريد أن أختار ما يغضبنى بدل من أن أقفز كمن صدمته الكهرباء مع كل موقف. ربما يأتى قرارى مع تقدمى فى الحياة سنة، وهى سنة تلقيت فيها صفعة أوقفتنى فى مكانى حتى بدأت باستعادة بعض من توازنى. لن أقول إننى اكتسبت نضجا فأنا أؤمن أن النضج يفرض نفسه على الجميع حكما حتى لو اختلفت أشكاله. فالجميع يكبر سنة هى سنة من الخبرات والمواقف والتغيير حتى إن لم نعترف بذلك.
•••
نهاية العام تقترب مرة أخرى وأبتعد أنا معها عن الزمن الجميل الذى أحبه كما ظهر فى قصص من سبقونى وصورهم الباهتة بفعل الوقت. أتوقف عند إشارات تصلنى من الكون وأفك الشيفرة ولا يهمنى موعدا قد أتأخر عليه فقد طلب منى الكون أن أتريث وأسمع تحذيره: الزمن من حولك هو زمنك فاخرجى من أزمان غيرك وتوقفى عند تفاصيل تعنيك وتفاعلى معها واختارى منها ما تحبين فلا ضرورة للانخراط بكل ما يحيط بك.
•••
نهاية العام تقف عند زاوية طريق سلكته وظننته انسيابيا إلى حد الملل فتعرج بى بحدة ليسقطنى فى حفرة بعد أن تجاهلت إشارات القدر. ها أنا أخرج من الحفرة وأعد القدر أننى لن أتجاهل إشاراته مرة ثانية وبذلك أقترب من نهاية العام وأنا أكثر إصغاء وأقل اندفاعا فى ردود أفعالى. سأكون أكثر حضورا مع من أحب وأقل تخطيطا إذ يجب أن أترك مساحة للقدر ليتحكم فى خططى بدل أن أحكم التخطيط فلا أترك للقدر مساحة فى حياتى. أقترب من نهاية العام وأعترف أن محاولتى فى الحد من القدر قد فشلت. سأترك مساحة للمفاجآت، هذا قرار أودع معه هذه السنة.