كل الانتصارات الصحفية التى يعتقد المذيع أحمد موسى أنه حققها بإذاعته تسريبات لمكالمات تليفونية مسجلة للدكتور محمد البراداعى، هى فى أحسن الأحوال ــ ومع استخدام أقصى درجات الرأفة ــ سقطة مهنية وأخلاقية مريعة، وقبل ذلك هى خطوة ينقصها الذكاء والحصافة، لأنها طرحت العديد من الأسئلة المحرجة حول التجاوزات القانونية للجهة أو الجهات الأمنية التى تورطت فى إمداد موسى بهذه التسجيلات، ثم إذاعتها على الهواء فى استخفاف بالغ بمواد الدستور والقانون التى تكفل احترام الحياة الشخصية للمواطنين، وتحظر التجسس على هواتفهم إلا بإذن النيابة.
لن يستطيع موسى الكشف عن مصادره الأمنية، ولن يستطيع إقناعنا بأن «فاعل خير» قدم له هذه التسريبات، كل ما نطلبه من موسى ومن يقف وراءه أن يدركوا أنهم يسممون حياتنا السياسية بهذه التسريبات الخرقاء، وأنهم يشعلون نيرانا من الغضب الجماهيرى، ستتخذ لنفسها مسارات تتجه نحو الفوضى والعنف، مع الاستمرار فى تشويه المعارضين والمخالفين فى الرأى، والذى يتواكب مع اتجاه الدولة لغلق المجال العام، وتقييد العمل الجماهيرى، واستخدام الأمن فى المعارك السياسية والفكرية!
أخطاء وخطايا تصل لحد الكوارث فجرتها فضيجة التسريبات هذه، فهى مثلا لم تسفر عن «ضرب» تحالف سياسى قائم بين البرادعى والشخصيات التى هاجمهما مثل عمرو موسى وحمدين صباحى أو التيارات الشبابية التى شاركت فى ثورة يناير، كما لم تقلل من قيمة البرادعى عند مؤيديه، وهى أيضا لن تسهم فى الإطاحة به من المشهد السياسى، فالرجل لن يتوارى خجلا من زلات لسانه، ولن يغلق حساباته على تويتر والفيس بوك، بل انه ربما يخطط للعب دور أكبر، كما قد تشير سلسلة حواراته مع احدى القنوات التليفزيونية بالخارج، من «التويتات» فى المستقبل القريب، بعد أن ثبت للجميع أن هذه، التويتات «لم تحرك ساكنا فى حياتنا السياسية، وانها ليست أكثر من «عظات أخلاقية» يتناساها الناس بمجرد قراءتها!
قد تساور الكثيرون شكوك «شبه مؤكدة» أن الجهات التى تقف خلف تسريبات موسى تؤمن إيمانا عميقا بأننا بالفعل نعيش فى «شبه دولة»، والدليل على صحة هذه الشكوك أن الدولة القوية ينبغى أن تواجه خصومها بأسلحة سياسية وليس بألاعيب امنية، فقد كان يمكن لمن يقفوا خلف موسى أن يردوا على البرادعى بكشف المفاهيم المغلوطة حول ما إذا كان هو فعلا«مفجر» ثورة يناير، أم أنه كان زائرا عابرا لميادينها؟ وهل كان يحمل مشروعا فكريا جديدا، أم انه كان نموذجا للمثقف البرجوازى المغترب عن واقع بلاده؟ وهل سقف تحركاته كان ثوريا أم إصلاحيا؟ وهل ستفيد عودته حياتنا السياسية أم لا؟ وهل كان خروجه من مصر خطوة صحيحة أم حركة بائسة يائسة؟
كالعادة تجاهلت أجهزتنا ونخبنا القضايا الحقيقية التى تحيط بالبرادعى، وانشغلنا بمحاولة تشويه سمعة الرجل بطرق لا أخلاقية، تزيد واقعنا السياسى سوءا على سوء، وقبحا على قبح!
ضرب البرادعى مجرد فصل جديد فى ضرب المشروع الديمقراطى فى مصر، والذى دشنته ثورة يناير ودفع آلاف الشباب أرواحهم ثمنا له، وحلم به ملايين المصريين وهم يهتفون بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ضد دولة مبارك، دون ان يدرى موسى ومن ورائه ــ كما يبدو ــ ان أى تراجع عن هذا المشروع هو فى جوهره دعوة لإشعال ثورة جديدة، أو على الأقل توفير كل الظروف الموضوعية لاندلاعها!
ما نحتاج إليه الآن هو قراءة نقدية لإحداث السنوات الخمس الماضية، تساهم فيها كل القوى السياسية التى شاركت فى ثورة يناير، كل حسب موقعه ورؤيته، حتى لا نترك أنفسنا نهبا لتحركات فوضوية عشوائية، أو تفسيرات أمنية ينفرد بها موسى وشركاه!