من أهم القضايا المثيرة للجدل هذه الأيام على مستوى علم المصريات ما يسمى بـ "إزاحة الاستعمار" ((decolonization. تناقش هذه القضية في المؤسسات العلمية والمتاحف العالمية، فهناك تشجيع غير مسبوق على كتابة الأبحاث التي تتناول تاريخ هذا العلم الذي نشأ في كنف الاستعمار وكيف قام الغرب بمحاربة دخول المصريين هذا المجال وتهميش إسهاماتهم، كما تقوم المتاحف في الغرب بإعادة النظر في عرض المجموعات المصرية القديمة وتغيير طريقة كتابة البطاقات المعلوماتية الخاصة بها لتروي دور الاستعمار في خروج هذه القطع إلى الغرب.
ويتواكب هذا مع المجهودات الرائعة بافتتاح متاحف جديدة في مصر وإعادة عرض المجموعات في المتاحف العريقة كالمتحف المصري في التحرير. ولذلك وجب اغتنام الفرصة بوضع إطار معرفي مؤثر لا يعتمد على إعادة انتاج الرواية الغربية، فلا أعتقد أن هناك إسهامات أو أطروحات مصرية بشكل كاف في هذا الجدل فالمتاح منها أغلبه يركز على الاكتفاء بلعب دور الضحية وهذا غاية في الخطورة لأن التاريخ يعاد كتابته من خلال هذا الحوار فهذه هي فرصتنا لوضع بصمتنا، فإن لم يرق لنا هذا السرد الجديد فلا نلومن غير أنفسنا. هذا المقال به مقترحات لدور فعال يمكن أن يلعبه المصريون لإنهاء الهيمنة الغربية في مجال علم المصريات.
ما هو تعريف "ازاحة الاستعمار" في علم المصريات؟
"ازاحة الاستعمار" في مجال علم المصريات من الموضوعات التي تناقش بشكل كبير من قبل المجتمع الدولي. فماذا يعني هذا المصطلح؟ تطور علم المصريات في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بالتزامن مع الوجود الإمبراطوري المتزايد في مصر من قبل القوى الإمبريالية الأوروبية، مما كان له تأثيرًا على كيفية ممارسة هذا العلم الذي هيمن عليه الغرب بمباركة حكام البلاد حينذاك فأصبح يكتب التاريخ المصري القديم من وجهة نظر غربية. إزاحة الاستعمار في مجال علم المصريات هو إعادة النظر في طريقة التعامل مع هذا العلم وللأسف فالغرب هو الذي يستأثر بهذا النوع من المناقشات. ومن الموضوعات التي تطرح دائمًا هي تشجيع أو إلزام المتخصصين في هذا المجال بدراسة اللغة العربية وأن تقبل الدوريات الدولية مقالات باللغة العربية كي يستطيع الأكاديميين المصريين المشاركة بمقالاتهم، وأنا أرى أن هذا في حد ذاته ينال من الأكاديمي المصري، فالأكاديمي الجاد الذي يتخصص في علم المصريات في الغرب مطالب بإجادة اللغة الإنجليزية والفرنسية والألمانية كي يستطيع الاطلاع على أهم المراجع في هذا المجال فِلماذا نتوقع أقل من هذا من المصريين؟ أنا مع إلزام من يريد التخصص في علم المصريات بتعلم اللغة العربية لأن إجادة اللغة العربية ضرورة لفهم الحضارة المصرية التي ورثت من مصر القديمة الكثير. فإلزام من يريد التخصص في علم المصريات بإجادة اللغة العربية يخدمه هو في المقام الأول لتمكينه من رصد الاستمرارية في الفكر الحضاري.
روت لي استاذتي ومثلي الأعلى الأستاذة الدكتورة فايزة هيكل موقفًا حدث لها في مؤتمر لعلم المصريات سنة ١٩٨٨ عندما القت محاضرة تنقد فيها ترجمة عالم المصريات الفرنسي الشهير جورج بوسنير لنص مصري قديم ببردية فانديي (Vandier). أكدت الدكتورة هيكل أن بعض الجمل التي تعثر بوزنير في ترجمتها تحتاج إلى آثاري يتقن اللهجة المصرية الحديثة حتى يتسنى له ترجمتها لأنها تضم تعبيرات ما زالت تستخدم في مصر المعاصرة حتى يومنا هذا مثل "عينه فارغة" و "إن شاء الله العدو" التي يصعب فهمها إلا لمن يتقن اللهجة المصرية الحديثة. اقتنع بوزنير بكلام الدكتورة هيكل التي نشرت أبحاثًا كثيرة عن استمرارية الحضارة المصرية القديمة إلى العصر المعاصر والهمت طلابها الاستمرار في دراسة ونشر الأبحاث في هذا الموضوع ومنهم الدكتور عمرو الهواري والدكتور هاني رشوان وباحث الدكتوراه أحمد عثمان وأتمنى أن يهتم المصريون بهذا الموضوع لأنه فعلًا يثري علم المصريات.
إبراز إسهامات المصريين والعرب
تعود بداية علم المصريات وتصنيفه كعلم من علوم الإنسانيات إلى فك شامبليون لشفرة الكتابة الهيروغليفية، ولكن عندما يتم سرد تاريخ المساهمات السابقة على هذا الكشف والتي مهدت الطريق لشامبوليون يتم استبعاد جميع العرب والمسلمين بحجة أنهم كانوا ينفرون من الحضارة المصرية القديمة لأنها حضارة وثنية.
لقد صدرت دراسة قيمة جداً تصحح هذا المفعوم وهو كتاب الدكتورعكاشة الدالي "الألفية المفقودة. مصر القديمة في الكتابات العربية في العصور الوسطى"
(Egyptology: The Missing MillenniumAncient Egypt in Medieval Arabic Writings)
ويبدأ الكتاب بكلمات تريجر التالية من كتابه "تاريخ الفكر الأثري"
(A History of Archaeological Thought): "في أواخر القرن الثامن عشر لم يُعرف أي شيء تقريبًا عن الحضارة القديمة لمصر والشرق الأدنى باستثناء ما سجله الكتاب المقدس والإغريق والرومان القدماء." يصحح كتاب الدالي هذا المفهوم الخاطئ من خلال تسليط الضوء على ما وصفه بـ "فترة مهملة لألف عام في تاريخ علم المصريات، منذ الفتح الإسلامي لمصر في القرن السابع الميلادي حتى الفتح العثماني في القرن السادس عشر". يذكر الدالي في المقدمة أن الهدف الثالث من كتابه، بالإضافة إلى تسليط الضوء على اهتمام العرب في العصور الوسطى بمصر القديمة ومحاولتهم دراسة وتفسير البقايا المادية لهذه الحضارة القديمة ومدى صلة هذه المادة بالدراسات الحديثة، أراد "تشجيع المزيد من الدراسة للمصادر العربية المتوفرة في العصور الوسطى". أحد أسباب عدم دراسة هذه المصادر بالقدر الكافي هو أنها تتطلب علماء على دراية بالمخطوطات العربية في العصور الوسطى بالإضافة إلى معرفتهم بتاريخ وحضارة مصر القديمة ليكونوا قادرين على تفسير المحتوى وصلته بمجال علم المصريات. ورغم هذه التحديات فمن الضروري مواصلة عمل الدالي وأفضل طريقة للقيام بذلك هي من خلال نهج متعدد التخصصات، مع فرق تضم متخصصين في المخطوطات العربية في العصور الوسطى وعلم المصريات.
لا نحتاج فقط إلى تسليط الضوء على مساهمات العلماء العرب في العصور الوسطى ولكن يجب أيضًا طرح مساهمات المصريين المعاصرين. في عام 1985 نشر دونالد م. ريد مقالًا بعنوان "علم المصريات المحلي: إنهاء استعمار المهنة؟" ويحاول فيه تتبع تطور علم المصريات بين المصريين مع توضيح سبب تطوره بشكل أبطأ من الغرب. بدأ مع رفاعة الطهطاوي حوالي عام 1830 ثم تابع ليشرح كيف أعاق علماء المصريات الغربيون الجهود المصرية لتخريج علماء المصريات بين سبعينيات القرن التاسع عشر وعشرينيات القرن الماضي. يروي كيف بدأ "إزاحة استعمار" علم المصريات في عشرينيات القرن الماضي وكيف تمت الإطاحة بآخر مدير فرنسي لمصلحة الآثار مع النظام الملكي في عام 1952. يمكن اعتبار هذا المقال عملاً رائدًا في "ازاحة الاستعمار" في علم المصريات.
هناك العديد من الدراسات العلمية التي تروي إنجازات علماء المصريات المصريين ولكن لا يزال هناك الكثير مما يجب عمله. لا تزال أرشيفات علماء المصريات الرواد المصريين غير مدروسة إلى حد كبير فتحتفظ الجامعة الأمريكية بالقاهرة بأرشيفات أحمد فخري، وجاب الله علي جاب الله، وزكي إسكندر، وعبد المنعم أبو بكر فيجب أن تدرس وتنشر جميع هذه الأرشيفات. وتحتفظ الجامعة الأمريكية بالقاهرة أيضًا بجزء من أرشيف سليم حسن بينما يحتفظ مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي (CULTNAT) بجزء آخر من الأرشيف، والذي يتضمن تقارير الحفريات التي قام بها في الجيزة (403 وثيقة) وسقارة (1430 وثيقة) وأوراق بحثية (800 وثيقة) وتقارير عن مشروع إنقاذ آثار النوبة (100 وثيقة) بالإضافة إلى مخطوطة توثق الطريق الصاعد للملك أوناس. بدأت CULTNAT مشروعًا في عام 2019 لرقمنة هذا الأرشيف ولا يزال هذا المشروع مستمرًا. كما يضم المعهد الألماني للآثار (DAIK) أرشيف أحمد فخري الذي يضم أكثر من 4000 وثيقة مثل الدفاتر وتقارير الزيارات الميدانية والمخططات والخرائط والصور الفوتوغرافية وسلبيات الصور، بالإضافة إلى المراسلات من وإلى فخري. نُشرت آخر أنشطة فخري في واحة الداخلة في كتاب بعنوان Denkmäler der Oase Dachla: aus dem Nachlass von Ahmed Fakhry ويعمل المعهد الألماني حاليًا على رقمنة أرشيف فخري وإتاحته للباحثين، علاوة على ذلك يضم المقر الرئيسي لمعهد دراسة الثقافات القديمة بجامعة شيكاغو (المعهد الشرقي لجامعة شيكاغو سابقًا) في الأقصر أرشيف لبيب حبشي والذي يتضمن مراسلات مهنية وشخصية بين حبشي ومتحف الأشموليان، وداوس دنهام من متحف الفنون الجميلة في بوسطن، والسير آلان جاردينر من معهد جريفيث، وأحمد فخري ، وروزاليند موس، وأم سيتي ، وويليام هايز، وكونستانت دي فيت، وغيرهم من الشخصيات الهامة في تاريخ علم المصريات، بالإضافة إلى رسائل حبشي إلى زوجته.
لم تقتصر دراسة الاسهامات المصرية في علم المصريات على العلماء فحسب ففي السنوات الأخيرة كانت هناك جهودًا لتسليط الضوء على دور رؤساء العمال والعمل اليدوي في علم الآثار المصرية. في عام 2006 تم العثور على أكثر من سبعين دفترًا من يوميات البعثة المشتركة لجامعة هارفارد ومتحف بوسطن للفنون الجميلة كتبها رؤساء عمال من عائلة دراز من مدينة قفط في مصر وبدأ بيتر دير مانويليان أستاذ علم المصريات بجامعة هارفارد مشروعًا يهدف إلى دراسة هذه الدفاتر وإعادة تقييم دور المصريين في علم الآثار المصرية. وفي عام 2010 نشر ستيفن كويرك أستاذ علم المصريات بجامعة UCL بلندن عملاً هامًا يستكشف أرشيف الآثاري البريطاني فليندرز بيتري ويسلط الضوء على مساهمات العمال المصريين في حفرياته في مصر بين عامي 1853 و 1942. وفي عام 2021 تم نشر رسالة دكتوراه كتبتها ويندي دويون بعنوان "إمبراطورية الغبار: علم الآثار المصري والعمالة في مجال الآثار في مصر في القرن التاسع عشر"
(Empire of Dust: Egyptian Archaeology and Archaeological Labor in Nineteenth Century Egypt). يعتبر هذا العمل مساهمة قيمة في فهم دور رؤساء العمال المصريين في إنتاج المعرفة الأثرية في مصر. كانت هذه بعض المساهمات العلمية التي تهدف إلى تسليط الضوء على إسهامات المصريين في علم المصريات، وعلى المصريين الاهتمام بتجميع ودراسة الأرشيفات المختلفة الموجودة في المؤسسات المصرية والتي يمكن أن تحتوي على معلومات هامة عن تاريخ علم المصريات ومنها وزارة السياحة والآثار والجامعات وغيرها.
النشر العلمي
مصر بها علماء مصريات على مستوى عال تلقّوا العلم في أرقى جامعات العالم ولعب الدكتور زاهي حواس دورًا هامًا في اتاحة الفرص لكثير من الآثاريين المصريين المجتهدين للدراسة بالخارج ولكن لا يزال عدد علماء المصريات المصريين الذين ينشرون في دوريات علمية محكمة ذات جودة عالية صغيرًا نسبيًا. أحد الأسباب هو أن نظام الترقيات في الجامعات الوطنية المصرية يعطي أعلى الدرجات للدوريات العلمية ذات عامل تأثير SCOPUS المرتفع و SCOPUS هي قاعدة بيانات لملخصات المقالات العلمية والاستشهادات (citations). وجميع الدوريات العلمية المسجلة على قاعدة بيانات SCOPUS تراجع كل عام لضمان مستوى جودتها ويتم تقييمها وفقًا لأربعة أنواع من مقاييس الجودة الرقمية. معظم الدوريات المتخصصة في علم المصريات الأكثر عراقة وقراءة غير مسجلة في SCOPUS لأن المحررين يعتبرون SCOPUS قاعدة بيانات تركز بشكل أكبر على العلوم الطبيعية بدلاً من العلوم الإنسانية ويوضح موقع مكتبة جامعة Johns Hopkins أن من أسباب محدودية SCOPUS في تقييم الإنتاج العلمي:
• تركز التغطية على مقالات الدوريات وتظهر الكتب وفصول الكتب بشكل أقل.
• يتم تغطية العلوم والتكنولوجيا والطب بشكل أكثر شمولاً من العلوم الاجتماعية والإنسانية.
تعطي الجامعات الوطنية المصرية أعلى النقاط للمقالات المنشورة في الدوريات المسجلة على SCOPUS وأغلب هذه الدوريات دوريات محلية غير معروفة دوليًا فيقبل الأكاديميين المصريين على النشر في هذه الدوريات وهذا يعني أن الكثير من أعمالهم تقرأ محليًا بشكل أكبر وتأثيرها الدولي ضئيل. الحل لهذه المشكلة أن يقوم المجلس الأعلى للجامعات بإعادة النظر في طريقة تقييم الإنتاج العلمي ووضع معايير إضافية تضمن أن عدد النقاط يعكس جودته بشكل أكثر دقة ووصوله للدوائر الدولية بشكل أكبر، كما يجب الترويج للدوريات العلمية المحلية الجيدة لتشجيع الأكاديميين الدوليين على قراءتها والنشر فيها.
المتاحف
ماذا يعني إزاحة الاستعمار في المتاحف؟ في مقالها في واشنطن بوست بعنوان "إزاحة الاستعمار في المتحف الأمريكي" تعرِّفه راشيل هاتسيباناغوس على أنه "عملية تخضع لها المؤسسات لتوسيع وجهات النظر التي تصورها بما يتجاوز منظور المجموعة الثقافية المهيمنة، ولا سيما المستعمرون البيض". ورغم المجهودات الرائعة في الآونة الأخيرة مثل تنظيم معارض مؤقتة تبرز دور علماء المصريات الرواد مثل معرض سليم حسن في متحف الحضارة المصرية، واسهامات أقسام التواصل المجتمعي التي تسلط الضوء على استمرارية الثقافة المصرية فإن وجهات النظر التي تقدمها المتاحف المصرية التي تقع على أرض مصر لا تزال إلى حد كبير غير مصرية، فهي لا زالت تحمل إرث نشأتها الاستعمارية. معظم المتخصصين في علم المتاحف في مصر مدربين على كتابة سيناريوهات العرض والبطاقات الخاصة بالقطع الأثرية بطرق تعيد إنتاج الرواية الغربية فيجب إعادة النظر في هذه السيناريوهات، كما ينبغي على المتاحف المصرية أن تسرد تاريخ وحضارة مصر من وجهة نظر مصرية وأن تبرز الاستمرارية بين مصر القديمة والحديثة والتاريخ الاستعماري لعلم المصريات والمساهمات المصرية في هذا المجال.
يعد المتحف المصري بالقاهرة مكانًا مثاليًا لمعالجة وإبراز التاريخ الاستعماري لعلم المصريات، حيث كان هذا المبنى نتاجًا لعصر الاستعمار وتاريخه مرتبط بهذه الحقبة، ومن يزور المتحف المصري اليوم ممكن أن يرى بعض البطاقات التعريفية القديمة التي تعود إلى سنوات المتحف الأولى مثبتة بجانب بعض القطع. ومن الضروري إعادة كتابة هذه البطاقات واللوحات بطريقة تسلط الضوء على هذا الماضي الاستعماري وتشجع الحوار عنه، كما يجب عمل معرضًا دائمًا عن تاريخ المتحف المصري تعرض فيه المواد الأرشيفية بما في ذلك البطاقات القديمة، ويسلط فيه الضوء على الروايات القديمة التي تدور حول المتحف المصري والنظام العالمي الذي كانت نتاجه ومقارنتها بمواد تعليمية معاصرة تتناول القضايا الحالية، فهذا سيقوي دور المتحف المصري في القاهرة كمتحف يعكس نشأة المتاحف في مصر.
ملاحظات ختامية
يحتوي هذا الطرح على بعض المقترحات للدور الفعال الذي يمكن للعلماء والأكاديميين المصريين القيام به لوضع حد للهيمنة الغربية على علم المصريات على أمل أن يؤدي ذلك إلى مزيد من الحوار والبحث المتعمق. من المهم أن يظل العلماء المصريون على اطلاع على الحوار الدائر حول حالة علم المصريات والمشاركة فيها حتى تؤثر مساهماتهم على الاتجاهات الجديدة التي سيتخذها هذا العلم في السنوات القادمة.