دخلت الأزمة فى اليونان مرحلة حرجة فى شهر يونيو 2015 نتيجة إصرار جماعة الدائنين (صندوق النقد الدولى، البنك المركزى الأوروبى، الاتحاد الأوروبى) على عدم تقديم أى تنازلات للتخفيف من أعباء أزمة المديونية الخارجية الثقيلة التى يعانى منها الاقتصاد اليونانى. فقد أصر الدائنون على ضرورة تطبيق برنامج قاسٍ للتقشف كشرط ضرورى قبل تقديم أى تسهيلات مالية جديدة تساعد اليونان على تسديد بعض التزاماتها الخارجية ودفعها للقبول الجبرى بهذه الشروط القاسية وإلا فإنها ستصبح على شفا الإفلاس.
ووفقا لتعبير أحد كبار الاقتصاديين (جوزيف ستيجلتز) أن النزاع القائم لم يكن أساسا حول المديونية والاقتصاد وإنما كان يدور حول علاقات القوة ونمط الهيمنة السائد داخل الاتحاد الأوروبى، حيث أصرت ألمانيا التى لها نفوذ اقتصادى أكبر فى الاتحاد الأوروبى على عدم تقديم تنازلات. وكانت اليونان قد عانت خلال الخمس سنوات السابقة من النتائج السلبية لبرامج التقشف التى طبقتها الحكومات السابقة فى اليونان وأدت إلى ارتفاع نسبة البطالة إلى نحو 25% وإلى 60 % فى صفوف الشباب. وعندما نجح تحالف اليسار (سيريزا) فى الانتخابات النيابية فى يناير الماضى كان التفويض الشعبى لهذا التحالف هو وقف التدهور الاقتصادى والاجتماعى نتيجة تطبيق برامج التقشف التى أصر عليها ثلاثى جماعة الدائنين.
•••
وأمام هذا الإصرار على ضرورة تطبيق برنامج التقشف، فإن حكومة تحالف اليسار التى تم انتخابها حديثا فى يناير الماضى كانت مهددة بالسقوط، وفى تقديرى أن هذا كان مقصودا من جانب البلدان المتنفذة فى الاتحاد الأوروبى. لأن نجاح الحكومة الجديدة فى اليونان فى التصدى لبرامج التقشف ووقف تدهور الأحوال المعيشية فى البلاد سيؤدى إلى انتشار العدوى إلى بلدان أوروبية أخرى مثل إسبانيا التى اكتسح فيها اليسار الانتخابات البلدية أخيرا، ومرشح للنجاح فى الانتخابات التشريعية مستقبلا فإنه يمكن أن يقتدى بالسابقة اليونانية.
•••
ومن هنا كانت المبادرة الذكية لرئيس وزراء اليونان اليكسس تسيبراس بطرح موضوع قبول أو رفض حزمة التقشف التى تقترحها جماعة الدائنين على الاستفتاء الشعبى العام يوم الأحد 5 يوليو 2015 لكى يكون قرار الرفض أوالقبول لحزمة إجراءات التقشف قرارا شعبيا ديموقراطيا وليحصل تسيبراس على تفويض شعبى جديد. وقد وجه رئيس وزراء اليونان خطابا إلى شعبه بتاريخ 26 يونيو جاء فيه: «خاضت الحكومة اليونانية على مدى الستة أشهر الماضية معركة شديدة فى ظل اختناق اقتصادى غير مسبوق. وذلك من أجل تنفيذ التكليف الممنوح لها من قبل الشعب فى25 يناير. وخلال هذه الفترة من المفاوضات طلب منا تنفيذ الاتفاقات التى أبرمتها الحكومات السابقة التى تتلخص فى: تحرير إضافى لسوق العمل ما يعنى تسريح مزيد من العمالة، تخفيض المعاشات، تخفيض إضافى فى أجور القطاع العام، زيادة فى ضريبة القيمة المضافة خاصة المفروضة على السلع الغذائية والمطاعم، وكذلك إلغاء الإعفاءات الضريبية الخاصة بالجزر اليونانية. هذا بالرغم من رفض الشعب اليونانى لمثل هذه الإجراءات فى الانتخابات الأخيرة. وعلى الرغم من ذلك، فلم نفكر ولو للحظة فى الاستسلام، الذى هو بمثابة خيانة لثقتكم».
وخلال الفترة المحمومة ما بين خطاب رئيس الوزراء وموعد عقد الاستفتاء فى 5 يوليو شنت وسائل الإعلام ودوائر المال الغربية حربا نفسية عنيفة لإيجاد حالة من الذعر لدى المواطنين اليونانيين من خلال رسالة مفادها أن التصويت بـ «لا» فى الاستفتاء سيدفع باليونان إلى التهلكة !! وكانت الحكومة اليونانية تعرف أنها معركة صعبة وتحدٍ للجبروت الاقتصادى لثلاثى جماعة الدائنين، وبادرت ببعض الإجراءات الاحترازية: تعليق نشاط البنوك لوقف سحب الودائع، وفرض قيود على خروج رؤوس الأموال، وتوفير السيولة للمواطنين من خلال ماكينات الصرف الآلى التى تكدست أمامها الطوابير.
•••
وخلال تلك الفترة الحرجة بادر عدد من الاقتصاديين اللامعين إلى مساندة الحكومة اليونانية وتقديم مقترحات فعالة لإيجاد مخرج من الأزمة. فكتب جيفرى ساكس بأنه يمكن تخفيض الدين الخارجى لليونان لأن دفع اليونان إلى حافة الهاوية سوف يعود بالضرر على جماعة الدائنين فى الأجلين المتوسط والطويل، وأن دفع اليونان للخروج من «منطقة اليورو» سيؤدى إلى أزمة فى بلدان منطقة اليورو نفسها ودعا إلى إعادة هيكلة الدين الخارجى لليونان عن فترات سداد أطول وأسعار فائدة منخفضة. وأكد أن هناك حالات سابقة لإعادة هيكلة الدين الخارجى مثلما حدث فى حالة المانيا نفسها غداة الحرب العالمية الثانية. وكذلك دعا الاقتصادى الكبير بول كروجمان فى مقال فى جريدة النيويورك تايمز (29 يونيو 2015) إلى التصويت بـ«لا» فى الاستفتاء، وأن الحديث عن السلوك غير المسئول للحكومة اليونانية هو محض افتراء. وأن حزم التقشف السابقة أدت إلى انهيار الاقتصاد اليونانى، وأن اليونان كان مقيد اليدين لعدم قدرته على تخفيض سعر صرف العملة (اليورو) وأنه يشجع خروج اليونان من منطقة اليورو.
كما أرسلت مجموعة من الاقتصاديين على رأسهم جوزيف ستيجلتز وتوماس بيكيتى خطابا إلى جريدة الفاينانشيال تايمز يطالبون فيه جماعة الدائنين بمعالجة أكثر إنسانية وعدالة لأزمة الديون اليونانية.
•••
وفى يوم السبت السابق لاستفتاء 5 يوليو ألقى رئيس الوزراء اليكسس تسيبراس خطابا جماهيريا فى أكبر ميادين العاصمة أثينا قال فيه :« نحن اليوم نحتفل بأننا نأخذ مستقبلنا بأيدينا لنستعيد كرامة أمتنا، ولكى لا نخضع للابتزاز وحملات التخويف والترويع. ونحن نريد أن نعيش فى أوروبا بكرامة، وندافع عن قيم الديموقراطية فى أوروبا التى تحترم خيارات الشعوب. ودعا إلى التصويت بـ «لا» وأردف قائلا: «وسوف ننتصر لأننا على حق».
وفى تقديرى أن هذا الخطاب التاريخى لتسيبراس يشبه إلى حد كبير خطاب جمال عبدالناصر الذى أعلن فيه تأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية فى يوليو 1956 كرد فعل على تعسف الغرب وتردده فى تمويل مشروع السد العالى. ويمكن تشبيه تعسف وابتزاز ثلاثى جماعة الدائنين بالعدوان الثلاثى على مصر انتقاما لتأميم قناة السويس. وكما خرجت مصر منتصرة من هذه المعركة من أجل البناء والنهوض الاقتصادى سوف تنتصر إرادة الشعب اليونانى فى الخروج من الأزمة واستعادة النمو والازدهار والعدالة الاجتماعية.
اقتباس
النزاع القائم لم يكن أساسا حول المديونية والاقتصاد وإنما كان يدور حول علاقات القوة ونمط الهيمنة السائد داخل الاتحاد الأوروبى.