سعد المصريون كثيرا بموسم حصاد القمح، وتغنى المصريون بالأغنية الشهيرة «القمح الليلة... ربنا يبارك ويزيده». ولكن الأزمة كل الأزمة كانت تكمن فى عدم وجود منظومة تساعد على استلام محصول القمح من المزارعين وتسديد مستحقاتهم. فمن الواضح أن الطاقة التخزينية للشون والصوامع فى أنحاء محافظات مصر ليست كافية لاستيعاب ما يريد الفلاحون توريده من محصول القمح، وأدى هذا إلى تذمر وغضب الفلاحين والمزارعين، بل لقد قام بعضهم بمحافظة الدقهلية، بقطع الطريق بسبب إغلاق المسئولين بعض الشون ورفضهم تسلم محصول القمح منهم.
وفى أحوال كثيرة استغل التجار والوسطاء تلك الأزمة لشراء محصول القمح من المزارعين بأسعار تقل بنحو ٥٠ إلى ١٧٠ جنيها للأردب من السعر الرسمى المحدد من الدولة، حسب المناطق، مع عدم دفع المستحقات فورا، وهذا يفتح الباب لعودة التجار والمرابين كما كان الحال فى الريف المصرى فى فترة ما قبل ثورة يوليو ١٩٥٢. ومن الواضح أن أزمة توريد الأقماح تحتاج إلى تشكيل غرفة عمليات فى موسم حصاد القمح بين وزارات الزراعة والتموين والمالية لتوفير السيولة اللازمة، لدفع مستحقات المزارعين دون إبطاء.
ومن ناحية أخرى، يجب أن تحاول وزارة التموين، أن تمنع استيراد القمح فى موسم الحصاد، حتى لا يختلط الحابل بالنابل، إذ أشارت بعض التقارير، إلى أن وزارة التموين قامت باستيراد مليون و٢٠٠ ألف طن قمح قبل موسم الحصاد. كذلك يجب فى نفس الوقت توسيع الطاقة التخزينية للشون والصوامع فى جميع محافظات الجمهورية، حيث إن عدد الشون والصوامع تُمثل بنية ارتكازية أساسية يجب أن ترافق التوسع فى المساحات المزروعة قمحا، والعمل على ارتفاع نسب الاكتفاء الذاتى من هذا المحصول الاستراتيجى على مدى الزمن.
***
فى أوائل الستينيات من القرن الماضى، أشار الاقتصادى السويدى البارز «بنت هانسن» «الذى كان أستاذا زائرا بمعهد التخطيط القومى بالقاهرة» إلى الأهمية الاقتصادية للمفاضلة بين المساحات المزروعة قمحا أو قطنا، باعتبارهما محصولين استراتيجيين: الأول للغذاء، والثانى للتصنيع والتصدير. ولكننا اليوم نجد أنفسنا بمواجهة أزمة حقيقية فى الزراعة المصرية، نتيجة تقلص المساحات المزروعة قمحا أو قطنا.
وقد تراوحت نسبة الاكتفاء الذاتى فى القمح خلال الفترة من ١٩٩٦ إلى ٢٠١٥ بين ٤٥٪ و٦٠٪، كما تشير البيانات إلى تقلص حجم المساحة المزروعة قمحا بنحو نصف مليون فدان فى الموسم الزراعى لهذا العام مقارنة بالعام الماضى، نتيجة ضعف الحوافز لزراعة القمح ورفض المزارعين تحديد دعم الفدان المزروع قمحا بمبلغ ١٣٠٠ جنيه للفدان، مما يستدعى إعادة النظر فى منظومة السياسات الزراعية من حيث توفير مستلزمات الإنتاج من أسمدة وتقاوى ومبيدات، وتوفير التمويل الكافى، والقنوات التسويقية والسعة التخزينية اللازمة.
ولعل معدلات النمو السكانى المرتفعة فى مصر، تُشكِل تحديا حقيقيا نتيجة اتساع حجم الفجوة الغذائية على مدى الزمن، الأمر الذى يستدعى رفع الغلة الفدانية للمساحات المزروعة قمحا، لتقليل الاعتماد على الاستيراد الذى يفرض أعباء كبيرة على ميزان المدفوعات فى وقت يعانى فيه الاقتصاد المصرى من عجز فادح فى حصيلة النقد الأجنبى.
وهذا يستدعى بدوره إعادة النظر فى التركيبة المحصولية للزراعة المصرية، حيث تقلصت المساحات المزروعة قطنا، خاصة بعد قرار تحرير القطن عام ١٩٩٤، وتدهور صناعة الغزل والنسيج التى أصبحت «صناعة غاربة»، حيث يقسم الاقتصاديون اليابانيون الصناعات إلى مجموعتين: صناعات غاربة وصناعات بازغة، كما لعبت الغزول المهربة والمصبوغة سلفا دورا كبيرا فى مجال تدهور صناعة الغزل والنسيج فى مصر.
كذلك يجب إعادة النظر فى المساحات المزروعة أرزا نظرا؛ لأن الندرة النسبية للمياه مستقبلا سوف تؤثر على المساحات المزروعة أرزا ذات الكثافة العالية فى استهلاك مياه الرى. وقديما اقترح عالم الزراعة الراحل الدكتور مصطفى الجبلى، ضرورة إحلال البروتين النباتى محل البروتين الحيوانى فى النمط الغذائى المصرى، مما يسمح بتخفيض أعداد رءوس الماشية وبالتالى تحرير مساحات كبيرة من الأرض المزروعة بالبرسيم، بما يسمح باستخدامات بديلة لزراعة محاصيل غذائية أو تصديرية.
***
خلاصة القول هنا أنه لابد من نظرة دينامية لمستقبل التركيب المحصولى فى مصر وعودة قدر من التخطيط للدورة الزراعية وتركيب منظومة جديدة لتوفير مستلزمات الإنتاج الزراعى والائتمان اللازم للمزارعين والترتيبات المؤسسية لتسويق منتجات صغار ومتوسطى الفلاحين.
وفى التحليل الأخير، تبقى هناك قضية جوهرية هى غياب نظام رشيد لترتيب الأولويات عند رسم السياسات الاقتصادية القطاعية، وتحديد علاقات التوازن بينها. وهنا يكمن موضع الخلل والارتجال فى حزم السياسات الاقتصادية المعمول بها دونما تفرقة بين الآجل والعاجل.