كان رهان الداعين لخصخصة المشروعات العامة فى مصر، هو تطوير أداء تلك المشروعات التى تم خصخصتها ورفع مستويات الربحية مع عدم المساس بالعمالة وحقوقها المكتسبة. واليوم بعد انقضاء فترة طويلة على إبرام صفقات الخصخصة لا يوجد أى تقييم للنتائج الاقتصادية والاجتماعية لصفقات الخصخصة، وفقا لمعايير علمية معتمدة. إذ إن هناك مخاطر حقيقية تجعل بعض عمليات الخصخصة آلية لتفكيك وتصفية وحدات إنتاجية معينة فى قطاع الأعمال العام، وما لذلك من تداعيات سلبية على مستويات الإنتاج والعمالة، والعجز فى ميزان المدفوعات.
ولعل أوضح مثال لذلك ما حدث لشركة النصر للمراجل البخارية، التى تأسست عام ١٩٦٨ فى عهد الرئيس عبد الناصر، لتكون جزءا من منظومة الصناعات الثقيلة فى مصر. وتم طرح عملية تطوير الشركة أول ما طرحت على أنها عملية إعادة تأهيل للشركة وتم التفاوض مع شركة «بابكوكس ويلكوكس» البريطانية، للمشاركة فى عملية إعادة التأهيل، وتم الاتفاق على عرض شركة بابكوكس ويلكوكس مصر، لمدة ٢٥ عاما، ووافق مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات الهندسية على هذا العرض فى ديسمبر ١٩٩٢.
ثم تطور الأمر بعد ذلك إلى التوصية بالموافقة على عرض الشراء المقدم من شركة بابكوكس ويلكوكس لشراء الأصول الثابتة للشركة مقابل ١٦.٢مليون دولار بما فى ذلك رصيد المخزون. وفى عام ١٩٩٤ تم تعديل الاتفاق وتم زيادة السعر المقدم من شركة بابكوكس ويلكوكس إلى ١٧ مليون دولار. وقد وافق مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات الهندسية على هذا العرض بتاريخ ديسمبر١٩٩٤، وكذلك وافق وزير القطاع العام على جميع إجراءات البيع ونتائجه.
وبعد ذلك قامت شركة بابوكس ويلكوكس، ببيع الشركة إلى رجل الأعمال خالد شتا، الذى قام بدوره بإعادة بيع الشركة بالمخالفة للقانون فى يونيو ٢٠٠٨ إلى الشركة الوطنية للصناعات الحديدية «إحدى شركات أوراسكوم للإنشاءات والصناعة» التى قامت بتفكيك معدات الشركة ونقل جميع موجوداتها ومعداتها إلى مقر الشركة المملوكة لها فى مدينة ٦ أكتوبر.
وقد صدر حكم المحكمة فى ٢١/٩/٢٠١١، بإلغاء قرار مجلس الوزراء بالموافقة على بيع جميع الأصول الثابتة والمخزون السلعى لشركة النصر للمراجل البخارية، ومنع البيع والتصرف فى أصول الشركة، لما شاب هذا العقد من شبهات فساد، وكذلك «بطلان جميع الإجراءات والتصرفات التى قامت بها الشركة المشترية عام ٢٠٠٨»، كما نص الحكم على أن «تسترد الدولة جميع أصول ومصانع الشركة وكافة ممتلكاتها المسلمة إلى المشترى مطهرة من أى رهون أو التزامات يكون قد أجراها المشترى. ونظرا لأن الأراضى الخاصة بشركة المراجل تقع فى منطقة منيل شيحة وكانت مطروحة كمشروع استثمارى فقد نص الحكم على «إعادة تجهيز مصانع الشركة على كامل أراضيها بمنطقة منيل شيحة».
* * *
ونموذج آخر ما حدث لشركة النصر لتجفيف المنتجات الزراعية فى سوهاج. وهى شركة أنشئت عام ١٩٥٩ لتجفيف البصل واستخراج زيت البصل الذى كان يتم تصديره للخارج بنحو ٦ ملايين دولار سنويا. وقد تم بيع هذا المصنع ضمن برنامج الخصخصة عام ١٩٩٨، وبعد شرائه قام المستثمر بمخالفة المادة الخامسة من عقد البيع التى تنص على التزامه بتنفيذ خطة لتطوير الشركة وفقا للبرنامج المقدم منه، وعدم المساس بالعمالة الدائمة والمؤقتة وكذا عدم المساس بكافة المزايا التى يحصلون عليها. ورغم ذلك قام المستثمر بتسريح ٢٥٠٠ عامل وفقا لنظام المعاش المبكر، وأصبح المصنع متوقفا عن العمل منذ نحو سبع سنوات.
هذه الأمثلة مجرد عينة ولا تعنى بأى حال من الأحوال جرد وتقييم لما آلت إليه الشركات التى تم خصخصتها، لأن ذلك الأمر يستدعى تكوين جهاز مستقل للمتابعة يصم قانونيين واقتصاديين ورجال إدارة، للوقوف على وضع الشركات التى تم خصخصتها فى فروع النشاط المختلفة، وفقا للمعايير التى تطلبها المصلحة الوطنية، وعلى رأسها:
ــ مدى الالتزام بشروط عقد البيع.
ــ مدى التطور الذى حدث لتلك الشركات فى مجالات الإنتاج، والجودة، والتطوير التكنولوجى.
ــ الأثر فى مجال توظيف أو تسريح العمالة.
ــ الأثر الصافى على ميزان المدفوعات من حيث تطوير أداء الصادرات أو الإحلال محل الواردات.
ــ الأثر على ربحية تلك الشركات، مع مراعاة أن أى زيادة فى الربحية ليست ناتجة عن المغالاة فى تسعير المنتجات والخدمات.
إذ إنه بدون هذه المعايير وبدون عملية جادة للمتابعة، يمكن أن تصبح بعض عمليات الخصخصة عبئا على الاقتصاد والمجتمع، وأبعد ما تكون عن تحقيق الصالح العام. وإذا كان المتحمسون لعمليات الخصخصة فى دوائر رجال الأعمال والمنظمات الدولية قد استبشروا خيرا لأننا «سوف نرى الضوء فى نهاية النفق» إلا أنه للأسف قد نرى «النفق فى نهاية الضوء»، حسب قول أستاذ بارز فى علم التنمية.