لا يمكن لأى متابع يقظ للإنتاج الروائى العربى فى السنوات التى أعقبت انتفاضات 2011 أن يتجاهل شيوع «روايات الديستوبيا» التى حاولت التعاطى مع المتغيرات التى رافقت تلك السنة.
ويكاد يكون هذا النوع من الأدب ظاهرة عالمية صاحبت تحولات فى بنية المشروع الرأسمالى ذاته، لكن الغرب اعتاد تاريخيا على وجود هذا النوع الأدبى الذى يبدو حديثا فى عالمنا العربى، الذى عرف قبل ذلك أنماطا من الأدب الفانتازى انطوت على اشكال غرائبية عديدة لعل أبرزها «ألف ليلة وليلة».
وتعد رواية «عصور دانيال فى مدينة الخيوط» التى صدرت عن دار العين للكاتب أحمد عبداللطيف هى أحدث الروايات التى يمكن النظر إليها كجزء من هذه الظاهرة التى كان من بين سماتها كذلك إعادة النظر فيما يتيحه «الأرشيف» وما يطرحه من تساؤلات وإمكانات هائلة لبناء سرديات بديلة.
يعطى موقع «ويكيبيديا» تعريفا عاما لهذا النوع من الكتابة بوصفه أدب المدينة الفاسدة (عكس اليوتوبيا) الذى يتناول عالم الواقع المرير ويتعاطى معه كمجتمع خيالى، فاسد أو مخيف أو غير مرغوب فيه بطريقة ما، فهو عالم وهمى ليس للخير فيه مكان، يحكمه الشر المطلق، ومن أبرز ملامحه الخراب، والقتل والقمع والفقر والمرض، باختصار هو عالم يتجرد فيه الإنسان من إنسانيته يتحول فيه المجتمع إلى مجموعة من المسوخ تناحر بعضها بعضا.
و«الديستوبيات» تتميز غالبا بالتجرد من الإنسانية، وغيرها من الخصائص المرتبطة بانحطاط كارثى فى المجتمع، ولهذا السبب، اتخذت فى الغرب شكل التكهنات، بمشكلات التلوث والفقر والانهيار المجتمعى والقمع السياسى أو الشمولية.
وفى رواية «عصور دانيال» لأحمد عبداللطيف الحائز على جائزة الدولة التشجيعية فى الرواية وهو كاتب ومترجم معروف يمكن ملاحظة الكثير من تلك الصفات التى ضفرها الكاتب مع عالمه المؤسس على نمط من الفانتازيا والولع بانفتاح النصوص، وإعادة صهرها وتأكيد ارتباطها بنصوص أخرى مما يعطى لأعماله سمة ما بعد حداثية يعززها بتصور عن المكان بحيث لا يمكن وصفه بالمكان الواقعى.
يلاحظ قارئ الرواية الإغراء الذى يمثله عالم الأرشيف، فالبطل هو موظف فى أحد الأرشيفات الرسمية ومن خلال هذا العالم السفلى يمكن التفكير فى التساؤلات التى طرحها ميشيل فوكو عن طبقات المعرفة وقدرة المؤسسات على السيطرة على العقول والأجساد عبر مختلف أشكال الإكراه بغرض إخضاع الجسد والسيطرة عليه وهى ثيمة رئيسية فى الرواية.
ولا يمكن قراءة هذه الرواية دون ربطها بالإنتاج السابق لمؤلفها، خاصة روايته المهمة (إلياس) التى تمثل تحديا كبيرا بفضل طبيعة البناء ونموذج البطل الذى تأسست عليه، وهناك تحديات أخرى ارتبطت بخيار الكتابة وفق نمط الشذرات القصيرة والمكثفة إلى جانب الاعتماد على مستويات لغوية متعددة بلغت أقصى درجات شاعريتها فى «عصور دانيال» فلا يمكن للقارئ الإفلات من سحر الحوارات المدهشة التى جمعت بين الطفلين الصديقين فيها (دانيال وإبراهيم) وهى علاقة متفردة فى أدبنا المعاصر بفضل ما فيها من شحنات عاطفية تفيض بالشجن، مثلها مثل مشاهد الموت الذى يفرد ظلاله داخل العمل على نحو لافت.
وداخل النص حديث طويل عن المدينة وطابعها العدمى وولع لا ينتهى بالربط بين المرئى واللا مرئى داخلها ومن ثم تعظيم للطابع الشبحى أو (السيمو لاكر) للأبطال وللمكان، فما تريده الديستوبيا هو الإلحاح على الانهيار الرمزى وكذلك انهيار الرهان على المستقبل الذى يمتد باتجاه «الابدية المتصورة» فى تكرارية نموذج (دانيال) وعصوره المتتالية.
وتمثل عملية تشويه الجسد كذلك ملمحا أساسيا من ملامح الرواية التى تقوم بالكامل على لعبة استدعاء الذاكرة وملء انقطاعها، ولا شك ان القارئ ينشغل بالسؤال عن فائض العنف داخل العمل، فهو عنف ما ورائى تم التكتم عليه ثم إشهاره والتشهير به، ومن ثم يمثل الأرشيف سلطة معرفية ومدخلا لبناء تاريخ جديد، فلا يمكن قراءة رحلة دانيال داخل النص الا رحلة لاستعادة واكتشاف لهويته التى تم محوها، فالارشيف كما يراه الفيلسوف الفرنسى جاك دريدا هو فضاء لممارسة السلطة، لأنه ما من سلطة دون السيطرة على الأرشيف.