أيام كانت مع عطيات الأبنودى - سيد محمود - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 6:14 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أيام كانت مع عطيات الأبنودى

نشر فى : الثلاثاء 9 أكتوبر 2018 - 10:35 م | آخر تحديث : الثلاثاء 9 أكتوبر 2018 - 10:35 م

لم تكن عطيات الأبنودى التى رحلت هذا الأسبوع مجرد صانعة أفلام عبرت عن انحيازها لقضايا وقيم، لكنها كانت إلى جانب ذلك مرآة لعطاء إنسانى فريد من نوعه يمكن إدراكه من سيرتها التى توزعت على عدة كتب وحوارات.
وربما تبدو كلمة الإصرار هى واحدة من أكثر الكلمات تعبيرا عن سيرتها العصامية التى روتها لى على مدى سنوات من صداقة أهدت لى فيها الكثير من الأفكار والمعانى، فسيرتها غنية بمحطات حولتها من طالبة حقوق تهوى الفن وتعمل فى مسرح العرائس لزوجة شاعر بدأ طريقه الإبداعى من موهبة فذة والتزام سياسى كانت له أثمان كبيرة آنذاك، وارتضت هى أن تدفعها كاملة بداية من حمل لقبه الجماهيرى مرورا بنتائج الانفصال الذى حدث بينهما بعد سنوات من قرارها بدراسة السينما واحترافها، ثم الإصرار على صناعة أفلام تبدو بلا جمهور لكنها تساهم فى تأكيد المسار المستقل لصناع الثقافة الوطنية إلى جانب المساهمة فى تغيير وعى الناس وهو هدف لازمها طوال حياتها.
ولا يمكن لمن يتابع سيرتها إلا أن يحترم فيها الإصرار الإنسانى الأهم ومصدره الحس الأمومى الذى عرفت به وقادها لرعاية (أسماء) الطفلة التى نجت من حادث سير راح ضحيته والدها الجنوبى الفريد يحيى الطاهر عبدالله.
ذهبت عطيات مع زوجها آنذاك عبدالرحمن الأبنودى لتفهم ما جرى وتعرف ما وراء الفجيعة وخرجت من المشهد الحزين ومعها الطفلة التى خلدها أمل دنقل حين كتب مرثيته الشهيرة لوداع يحيى.
(ليت أسماء تعرف أن أباها قد صعد/ لم يمت/ هل يموت الذى كان يحيا/ كأن الحياة أبد)
أما أسماء التى وصفها الأبنودى بـ«النور الذى تسلل لقلبى فجأة» فقد تعلقت بثوب عطيات وأصرت أن تبقى معها
قالت لى عطيات بعد ذلك بسنوات إن أسماء أصبحت منذ تلك اللحظة ابنتها بالاختيار.
وتأمل معى جمال هذا التعبير الكاشف عن أصالتها الروحية، تلك التى تجلت فى كتابها الفريد: (أيام لم تكن معه.. عبدالرحمن الابنودى فى السجن/ دار الفرسان) الذى كتبته فى «مواسم الغفران» التى يبلغ الانسان فى شيخوخته ساعيا لتأمل ذاته فى انعكاس تعاملاتها مع الآخرين.
وفى تلك السنوات بالذات عادت عطيات لأوراقها تتأمل التجربة بكاملها وانتهت إلى كتابة نص اعتبره احد اجمل نصوص الحب فى حياتنا المعاصرة وأغناها.
وقد نشرت عن دراسة مطولة فى كتاب بعنوان: (أدب السجون) حرره الشاعر شعبان يوسف عن ندوة أقيمت عام 2009 بنفس الاسم بمركز البحوث العربية.
ورغم الطابع الفردى للمذكرات إلا أنها فى العمق وثيقة الصلة بالتاريخ العام الذى تتحرك فى إطاره ويرتبط بظروف تكوين أحد التنظيمات الشيوعية بين أكتوبر 1966 ومارس 1967 وهو تنظيم اعتمد على مبدعين ومؤرخين من المدهش أنهم لم يبادروا أبدا بكتابة تاريخه إلى الآن.
ولولا هذا الكتاب لظلت معرفتنا به ناقصة وما يكشفه الكتاب إنه يركز على اشكال الحياة خارج السجن على عكس أغلب كتب (أدب السجون) المكرسة بكاملها لتناول الحياة داخل المعتقلات، بينما لا نجد بين أيدينا – فى حدود معلوماتى ــ سوى هذا النص الفريد ليكشف عن أنماط حياة اسر المعتلقين فى الخارج على نحو يجعلهم أيضا «سجناء» على نحو ما.
وجانب كبير من تفرد النص يرتبط كذلك بالفضاءات التى يتحرك فيها أبطاله، فهى فضاءات منتجة للثقافة وصانعة لها، وبالتالى هو كاشف عن طبيعة علاقات الهيمنة داخل تلك المؤسسات كما يكشف عن مهارة مدهشة امتلكتها عطيات فى التعامل مع وسيط اخر غير الكاميرا وهو الكتابة والتدوين لكنها تلجأ اليها لتأدية نفس الوظيفة الجمالية المهووسة بالتاريخ بوصفه طريقا لمواجهة الغياب.
وللأسف تعرض هذا الكتاب الفريد عند صدوره لحملة حصار، لدرجة انه لم يطبع مرة اخرى على الرغم من نفاد طبعته الاولى حيث روج البعض لتهمة باطلة لاحقته حيث ارادوا أن يجعلوا منه بيانا للتشهير بالشاعر الراحل وتلك التهمة الباطلة جاء الوقت لأن يتخلص الكتاب منها إلى الابد.