كل الشواهد تؤكد أن السودان يواجه مستقبلا غامضا.. ففى الجنوب، يحلق شبح الحرب القبلية فى سماء الحياة السياسية، فقبيلة الدينكا الأكبر عددا والأكثر نفوذا ستواجه بالتأكيد تمرد قبائل الشيلوك والنوير وغيرهما من القبائل التى تتحفظ على هيمنة الدينكا على السلطة والثروة خاصة أن تاريخ الجنوب ــ بعرقياته الثلاثة الكبرى ــ يمتلئ بالصراعات على الماشية والمراعى، وبالمعارك المسلحة التى يروح ضحيتها العشرات، وتتجاهلها تماما أجهزة الاعلام الغربية، فى حين تصب «اهتمامها المشبوه» على دارفور فقط، رغم ان صراعات الجنوبيين اكثر ضراوة وضحايا واستمرارا.
أما فى الشمال، فتواجه الخرطوم معركتين اساسيتين الأولى هى خطر انفصال شرق السودان وغربه.. والثانية هى مواجهة معارضة من عشرات الأحزاب والقوى السياسية التى تسعى إلى إسقاط النظام ،وإحلال نظام ديمقراطى بدلا منه. حيث ترى فصائل هذه المعارضة أن «النظام الاسلامى» الحاكم بالخرطوم ليس له أى علاقة حقيقية بالاسلام، وأنه يرفع شعارات جوفاء اسفرت فى النهاية عن تقسيم السودان وفتح ابوابه امام التدخلات الاجنبية، وهم يروون مئات الحكايات عن تورط رجال مؤيدين للنظام فى وقائع فساد منظم للاستيلاء على ثروة البلاد والسيطرة على الاقتصاد الوطنى.
كما أن شمال السودان المحسوب على العروبة أصبح يعج الآن بتيارات سياسية متطرفة تبنى «جدارا نفسيا عازلا» مع العرب.. وتغيرت اهداف معركة « الغابة والصحراء» التى ابتدعها العقل السودانى إبان نهضته فى الستينيات للتأكيد على ان هوية السودان هى امتزاج حضارى بين الغابة الأفريقية والصحراء العربية.. حيث اصبحت أفريقية السودان هى هويته الوحيدة، والعروبة مجرد احتلال ثقافى وعقلى لابد من التحرر من قيوده.. وامتلأت الساحة الشمالية بالكثير من التيارات المتشددة التى لا تخفى كراهيتها للعروبة وللدور المصرى فى السودان، بل إن منهم من يحمل مصر بالتحديد كل المصائب التى حلت بالسودان!
والأخطر من كل ذلك، فإن استئناف الحرب الاهلية بين الشمال والجنوب أمر وارد، بل ان الكثيرين يؤكدون حتمية نشوبها، ويختلفون فقط على موعد اشتعالها!
والحقيقة اننا قبل أن نفقد نصف السودان «جغرافيا» مع اختيار الجنوبيين المتوقع للانفصال فى 9 يناير القادم، كنا على مدى سنوات طويلة نفقد السودان بكامله سياسيا وثقافيا خطوة وراء خطوة.. دون أن نشعر أو نهتم!