أوراق
إذا صدقنا ما يقوله الإعلام الرسمى المحسوب على الدولة أو الخاص المؤيد لها، فإن سقوط الطائرة الروسية فى سيناء، هو جزء من مؤامرة كونية كبرى على مصر، تستهدف فى بعض روايات هذا الاعلام إحراج الرئيس عبدالفتاح السيسى، وفى روايات أخرى إسقاط نظامه، ليعيش ملايين المصريين فى هذه المسافة الواسعة بين«الإحراج» و«الإسقاط» فى غيبوبة سياسية كاملة، لم يتدخل أى مسئول حكومى لإنقاذهم منها، ويوضح لهم حقيقة ما يحدث بالضبط!
التفسير الأكثر رواجا الآن فى وسائل الإعلام الغربى لسبب سقوط الطائرة، هو قنبلة نجح أعضاء داعش فى زرعها بداخلها، وهى القصة التى تتبناها الحكومات الغربية بعد أن سربتها المخابرات الامريكية والإسرائيلية للصحف ووسائل الاعلام، وهو احتمال كبير لكنه ليس الوحيد، بانتظار انتهاء التحقيقات وتحليل بيانات الصنوق الأسود.
ومع ذلك وبفرض أن الطائرة أسقطت بالفعل بسبب هذه القنبلة المفترضة، فإن علاقتها بالكلام عن مؤامرة دولية ضد مصر تحتاج لمزيد من التوضيح الرسمى، لا أن تترك حكومتنا هذه القضية المهمة التى تهدد أمننا القومى، لرؤى وتحليلات بل واجتهادات وسائل إعلام يفتقد الكثير منها للمهنية وللمصداقية والمعلومات الموثقة، فحكومتنا حتى الآن غائبة تمام عن هذا المشهد الخطير، فلا هى نفت حديث المؤامرة ولا هى أكدته، بل اكتفت بالصمت المريب!
إذا كان الأمر مجرد قنبلة راح ضحيتها مدنيين أبرياء فى حادث إرهابى خسيس، فالحكومة مطالبة بالاعتراف بخطئها الفادح وتقصيرها فى اتباع الإجراءات الأمنية الصارمة فى مطار شرم الشيخ الذى يقع ضمن حدود حربها مع داعش فى سيناء، وإعلان ذلك بوضوح للرأى العام، أما إذا كان الأمر يتعدى حدود القنبلة إلى تخوم المؤامرة الدولية، فإن للقضية تبعات أخرى تفرض على الرئيس وحكومته إجراء تحولات جذرية فى سياساته الداخلية وتحالفاته الخارجية.
المشكلة الحقيقية أن السيسى ورؤساء حكوماته ينطلقون من خطاب سياسى يتسم ــ حتى فى نظر مؤيديه ومن يحسنون الظن به ــ بالتحفظ الشديد والمبالغ فيه، فى ظل مؤامرات وترتيبات دولية تستهدف إعادة هندسة المنطقة بكاملها، وتفتيت بعض دولها، وإشعال حروب أهلية بداخلها، وأيضا فى ظل عمليات إرهابية مسلحة فى سيناء ــ تستهدف إنهاك الجيش واستنزاف موارد الدولة.
الرئيس مطالب فى ظل هذه التحديات أن يتسلح بالخيال السياسى، والابتعاد قليلا عن براثن الانضباط العسكرى الذى يبدو انه يفضله بحكم نشأته وتربيته فى الجيش، فمصر ليست ثكنة عسكرية تدار بالضبط والربط والتنفيذ الحرفى للأوامر، ولكنها الآن بحر متلاطم الأمواج من التوترات الاجتماعية والطبقية، ويعانى فقراؤها من أزمات معيشية طاحنة، ومن ركود اقتصادى يطال الجميع من أعلى الهرم الاجتماعى إلى سفحه.
لا أحد يطالب الرئيس أن يكون شيوعيا ولا حتى اشتراكيا إصلاحيا، لينحاز للأغلبية المطحونة سعيا وراء لقمة العيش فى مصر، لكنه بالتأكيد مطالب بأن ينحاز للشعارات الكبرى التى رفعتها ثورة 25 يناير فى الحرية والعدالة الاجتماعية، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بقيام الدولة بدورها الاجتماعى فى حماية الفقراء، وأن تتدخل فى توفير احتياجاتهم الأساسية، وبإطلاق المجال واسعا أمام حرية التعبير وبالتأكيد على حق الإضراب والتظاهر، حتى نستطيع بناء نظام سياسى جديد، يعيد الدماء لمؤسساتنا السياسية والحزبية التى شوهتها التدخلات الأمنية على مدار عشرات السنين.
الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومصارحة الشعوب بالأخطار التى تواجهها، هى الضمانة الوحيدة لبقاء أى نظام فى هذا العصر ونجاحه فى تحقيق أهدافه، وهى التى تضمن انتصاراته فى المعارك التى يواجهها، سواء كانت ضد إرهابيين يزرعون القنابل فى الطائرات، أو فى مواجهة مؤامرات دولية تديرها القوى الكبرى فى العالم.
محمد عصمت