(1)
فى كتابه صغير الحجم عظيم الفائدة عنه، يتتبع العلامة أحمد أمين خطوات الشيخ رفاعة الطهطاوى، منذ بدأ فى تلقى العلم على يد شيوخه بالأزهر، ثم ابتعاثه إلى فرنسا سنة 1826، وتفاصيل السنوات الخمس التى قضاها هناك، ثم عودته إلى مصر سنة 1831 ليمارس أعظم وأخطر أدواره على الإطلاق، والتى لخصها أحمد أمين فى عبارة جامعة دالة بصدر كتابه «مؤسس النهضة العلمية الحديثة فى مصر».
كيف رأى ــ إذن ــ المرحوم أحمد أمين شخصية الطهطاوى وقيمته ودوره؟ وكيف قرأ سيرته وقدمها بهذا «التكثيف» و«الإيجاز»؟ وكيف اطمأن إلى وصفه الدقيق والصائب بـ«مؤسس النهضة العلمية الحديثة»؟
يعتبر أحمد أمين نقطةَ البدء التى غيرت مجرى حياة الطهطاوى إلى الأبد، وأحدثت ما أحدثت من تحولات أفضت إلى المسارات التى ارتادها، علاقتَه بالشيخ حسن العطار، ويقف أحمد أمين عند تلك العلاقة المدهشة بين الشيخ رفاعة الطهطاوى وأستاذه العطار، مشيرًا إلى أن «شيئًا واحدًا فقط ميَّز الطهطاوى عن كثيرٍ من المجاورين، فى الفترة السابقة على سفره إلى فرنسا، هذا الشىء هو اتصاله اتصالًا وثيقًا بالشيخ حسن العطار، وكان هذا رجلًا ممتازًا واسع النظر، خبيرًا بالدنيا على قلة الخبيرين بها من علماء الأزهر فى ذلك العصر، ولم يعجبه طريقة الأزهريين فى الاقتصار على كتب النحو والفقه والتفسير والحديث، فضم إلى ذلك نظرته فى كتب التاريخ والأدب».
هذا هو الشيخ العطار الذى صار فيما بعد شيخ الأزهر، على ما يقول أحمد أمين، وهذا هو أستاذ الشيخ رفاعة الذى أثر فيه أثرًا غير شائع عند الأزهر بين إذ ذاك، من ميل إلى الأدب واطلاع على الكتب غير المتداولة، وكان التلميذ المحبوب عند شيخه العطار فى بيته وفى قراءته الخاصة وفى دروسه العامة.
(2)
وفى الحق أن الأزهر كان فيه نبع صغير متسلسل يُعنى بالتاريخ والأدب، بجانب ذلك النبع الكبير الذى يُعنى بعلوم اللغة والدين فقط، وكان من هذا النبع الصغير الشيخ الجبرتى المؤرخ الكبير، وتلميذه العطار، وتلميذه رفاعة. وظل رفاعة يتلقى دروسه فى الأزهر حتى أتمها وتصدى للتدريس فيه، ثم عين فى منصب صغير هو واعظ بالجيش، ثم حدثت الحادثة الكبرى التى غيرت مجرى حياته ورسمت طريق نبوغه، ومكنته من أن يتولى زعامة النهضة، وهى بعثته إلى باريس.
كانت أهم نتيجة وأبرز نتيجة من هذه البعثة، هى إيمان الطهطاوى بالعلم والمعرفة والنظر العقلى فى إحداث التغيير، وقد آمن كذلك بأن الترجمة واحدة من أخطر أدوات النهضة والتحديث لمن بحث عنهما وطلبهما!
ويبرز أحمد أمين كيف وظف الطهطاوى «الترجمة» لتأسيس هذه النهضة وغرس بذرتها، وإحداث التغيير الكبير الذى طال البلاد والعباد عن طريق التعليم فى دولة محمد على، ومن بعده فى فترة حكم حفيده الخديوى إسماعيل.
نعم. كانت الترجمة هى وسيلة رفاعة الطهطاوى الأولى فى الانتقال بوطنه مصر إلى آفاق العصر الحديث، نقل بها كتب الاستنارة الفرنسية، وعرّف بها، منذ أن تعرّف هذه الكتب لأول مرة فى السنوات التى قضاها فى باريس (1826-1831) منذ أن ذهب إليها وهو فى الخامسة والعشرين من عمره، وصافحت عينه هناك مؤلفات روسو وفولتير ومونتسكيو، وكل أعلام التنوير الفرنسى.
والترجمة هى قناع رفاعة المراوغ، حين كان يحاول نقل أفكاره السياسية وتوصيلها، بكل ما تحمل هذه الأفكار من إشارات إلى كيفية تحقق العدل، والثورة على الظلم، ولم يكن من قبيل المصادفة أن يعجب رفاعة الطهطاوى بميراث الثورة الفرنسية فى هذا المجال، وأن يترجم وهو فى باريس نشيد المارسيلييز نظمًا، ويتبعه بترجمة «القصيدة الباريسية» التى قيلت فى ثورة الفرنسيين ضد ملكهم شارل العاشر، لقد أهاجته قيم الحرية والعدالة والمساواة التى رفعتها الثورة الفرنسية.
(3)
وإذا كانت «الترجمة» هى قناع الشيخ رفاعة الطهطاوى الذى تخفَّى وراءه ونقل كل ما كان يريد توصيله إلى من يطالع ما كتب ويقرأه بعين الرعاية والنظر، تأكيدًا لحلمه الجميل فى أن تنتقل أمته من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية (بعبارة جابر عصفور الأثيرة)، فإن الكتابة الذاتية كانت وسيلة موازية لهذا القناع.
لقد بدأت رحلة الطهطاوى التنويرية بالرحلة إلى فرنسا، وقبل الرحلة نبهه أستاذه الجليل الشيخ حسن العطار إلى ضرورة تدوين مشاهده فى كتاب، وهكذا انبثقت فكرة «تخليص الإبريز فى وصف باريز»، وذلك بالمعنى الذى جعل الكتاب استخلاصًا لأسباب تقدم الفرنسيين، ووصفًا للمظاهر الفعلية لهذا التقدم، وكما كان السفر «مرآة الأعاجيب» على نحو ما قال الشيخ حسن العطار فى تقديمه كتاب تلميذه بعد أن فرغ منه وعاد إلى الوطن، كان السفر تحولاً للوعى، وتغيرًا فى الفكر، وتنشيطا للخيال، وإعمالا للدهشة والتأمل، وارتحالاً من منظور إلى منظور، وكانت الكتابة تسجيلاً لهذا التحول، خطوة، خطوة، وفكرة فكرة.
ومن هنا بدأت الرحلة، ولما تنته بعد، رغم العثرات والتعثرات والعوائق والتحديات.. وما زلنا محكومين بالأمل رغم كل شىء!.