خلال زيارته لأمريكا التى انتهت منذ عدة أيام، كانت «رائحة كريهة» تفوح من بين ثنايا تصريحات رئيس الوزراء السودانى عبدالله الحمدوك، فالرجل الذى بدا وكأنه يتسول قرارا من إدارة ترامب ورؤساء لجان الكونجرس بإلغاء العقوبات الأمريكية على بلاده، وهو يقول إن هذه العقوبات تضعف حكومته وتحول دون تحقيق أهداف ثورة السودان، لم يجد أمامه سوى التماهى مع واشنطن فى «حربها اللعوب» على الإرهاب، محذرا الأمريكان من أن بلاده مرشحة لأن تكون ملجأ لتنظيم داعش إذا سقطت الدولة فيها، متوقعا قرب حدوث هذا السقوط!
الحمدوك بدلا من أن يبذل جهده لتحقيق أهداف الثورة السودانية لتحقيق السلام فى بلاده، ليوفر المناخ الملائم لاستثمار ثرواتها الهائلة والتى ترشحها الامم المتحدة لتكون احدى الدول القليلة لسد الفجوة الغذائية فى العالم بالـ 200 مليون فدان الصالحة للزراعة فى جميع ربوعها، وبالثروات البترولية والمعدنية الهائلة التى تمتلكها، وبالكوادر الفنية رفيعة المستوى القادرة على إدارة هذه الثروات، فاجأنا كما فاجأ قطاعات كبيرة من السودانيين قبلنا، بأنه يقف على أبواب واشنطن منتظرا أوهام الدعم الأمريكى، وكانه لا يقرأ تجارب هذا الوهم فى كل الدول العربية التى لجأت إلى أمريكا لتحقيق الرخاء والأمن فلم تجن سوى الفقر والخراب وإراقة الدماء.
حتى الآن، لم يتحدث الحمدوك بصراحة عن تطبيع العلاقات بين بلاده وإسرائيل كثمن لتحسين علاقاتها بإدارة ترامب، ولكى تساعده فى إقناع هذه الادارة العاشقة لإسرائيل بإخراج السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، لكن وزيرة خارجيته أسماء عبدالله فتحت الباب أمام هذا التطبيع وهى تقول إن السياسة متغيرة، وإن العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل «لن تكون الآن» لكنه من حيث المبدأ قد يتغير هذا الأمر فى المستقبل.
حكومة الحمدوك على ما يبدو تتجاهل دور إسرائيل فى انفصال الجنوب، ودور رجال الموساد وقائدهم الذى كان يطلق عليه اسما حركيا «طرزان» فى تأجيج الحرب الأهلية فى السودان، والسعى لفصل الجنوب مستغلا الأخطاء والخطايا التى ارتكبتها الحكومات المركزية فى الخرطوم بحق الجنوب والجنوبيين، فالحمدوك مستعد لبلع كل الجرائم التى ارتكبتها إسرائيل فى حق بلاده مقابل نيل الرضا والدعم الأمريكى.
لا أحد يدرى ما الذى جرى بالضبط فى كواليس لقاءات الحمدوك مع المسئولين الأمريكيين، ربما يكون إعلان وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو فى ختام هذه الزيارة بأن البلدين اتفقا على اعادة تبادل السفراء بعد قطيعة دبلوماسية استمرت 23 عاما، ضمن حزمة اتفاقات تتضمن اعتراف السودان بإسرائيل، فالمؤشرات تكاد تجزم بأن هذه القضية قد فتحت، بانتظار الاعلان عن تفاصيلها فى الوقت الملائم الذى تستطيع فيه حكومة السودان تحمل تبعات هذا القرار وتسويقه بين مواطنيها.
حكومة الحمدوك ترفع شعارات الثورة فى السودان، ولكنها بدأت تسير فى الاتجاه المعاكس لها، وتتبنى استراتيجيات ستضع كل هذه الشعارات فى مهب الريح، بل وربما تضع السودان نفسه فوق فوهة بركان ينذر بانفجارات غير محسوبة النتائج، فالنهج الأمريكى الذى يتحسس الحمدوك خطاه لا يعنى فقط تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ولكنه يعنى فى الأساس ربط كل مقدرات السودان مع الخطط والاستراتيجيات الأمريكية فى المنطقة، باتباع الخصخصة طبقا لروشتة صندوق النقد المسمومة أسلوبا فى إدارة الاقتصاد، ورهن ثروات السودان لشركات اجنبية، وبيع كل أصول القطاع العام لها، وصولا لبناء مجتمع النصف فى المائة الذى يمتلك الثروة فى حين يغرق الملايين فى مستنقع الفقر والفاقة، وساعتها قد يكون المناخ مهيأ لانقلاب عسكرى جديد يعيد السودان من جديد لطاحونة الفقر والديكتاتورية.
قد تكون الظروف الداخلية الضاغطة فى السودان والمناخ الاقليمى المضطرب الذى يحيط به وراء السياسات التى يتبعها الحمدوك، لكنه يستطيع لو أراد أن يغير موازين اللعبة، بالاعتماد على موارد بلاده وعلى شعبها الذى أشعل ثورة نبيلة ملهمة!