سكتة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 11:36 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سكتة

نشر فى : الجمعة 9 ديسمبر 2022 - 8:45 م | آخر تحديث : الجمعة 9 ديسمبر 2022 - 8:45 م
بعد ساعاتٍ مِن الثَرثَرةِ لم تتخلَّلها سوى فتراتُ راحةٍ قصيرة؛ حلَّ الهدوء. سَكتةٌ أصابت الجَمعَ المُشتَبِكَ في أحاديثٍ كرويةٍ خالِصَة؛ جابت الشرقَ والغَربَ، وصَعدت للشمالِ ثم هَبَطَت إلى الجَنوب. كلٌّ يتحاكى بمباراياتٍ ونتائج لم تكُن بين التوقُّعات وكلٌّ يُحاوِل إعادةَ الحِسابات والخُروجِ بنبوءاتٍ جديدةٍ أقرب إلى الصِحَّة. كأسُ العالمِ فُرصةٌ لتجديدِ شغف قد فَتُرَ على الأصعِدةِ جميعِها إبان الأعوامِ الأخيرةِ، وحلَّت مَحلَّه غيومٌ ثقيلةٌ بَهتت القُلوب.
• • •
السَّكتَةُ في معاجمِ الُّلغةِ العربيةِ هي المَرَّةُ الواحدةُ من الفِعلِ سَكَتَ، أيّ التزمَ الصَّمتَ وامتنعَ عن القَّولِ. الفاعلُ ساكتٌ والمصدر هو السُّكوت، وإذا قِيلَ "سَكَتَ الكلامُ" فتعبيرٌ مَجازيٌّ يَدلُّ على وُقوعِ حَدَثٍ جَلَل؛ عجَزَت المَلفوظاتُ عن وَصفِه، وقَصُرَت عن التفاعُل معه.
• • •
قدَّم يوسف شاهين فيلم ”سكوت.. ح نصور“ في مَطلع الألفيةِ الثانية، لتقوم ببطولته الفنانة لطيفة والفنان أحمد وفيق، والظنِّ أن أفضلَ ما في الفيلمِ أغنياتِه وأقربَها إلى الوِجدانِ أغنية ”المصري“، والمُفارقةُ بين عنوانِ الفيلم ومَطلعِ الأغنيةِ هي مُفارقةٌ بين الأمرِ بالسُّكوتِ وسؤالِ السامعِ عن قُدرتِه على الكلام: تعرف تتكلم بلدي؟ الأغنيةُ مِن كلماتِ جمال بخيت وألحان عمر خيرت، ولا تزال حاضرة في مُناسباتٍ عديدة.
• • •
السَّكتةُ القلبيةُ والسَّكتةُ الدِماغية؛ كلاهما تصِفُ حالًا هي في حقيقتها أقرب إلى المَوات؛ فإن عاد منها الإنسانُ كان على حَظٍّ عظيم. يتوقَّف القَّلبُ عن العَملِ لبُرهةٍ وَجيزةٍ أو تنغلقُ الأوعيةُ الدَّمويةُ في الدِماغ؛ فكأنما انقطَعَت الكهرباءُ وأظلمَ الكَّون.
• • •
ثمَّة سَّكتةٌ يُرمَز لها بما يُشبِه حرف إس اللاتينيّ في النوتةِ المُوسيقية، وهي لحظةُ صَمتٍ شاملٍ لا يُسمَع فيها سوى السُّكون التام. لا أنسى يومًا حَضَرت فيه إحدى حَفلات دارِ الأوبرا المِصريَّة منذ ما يجاوز السنواتِ العَشر، وكانت أوركسترا القاهرة تقدِّم سيمفونيات بيتهوفن التسع على مدارِ أيامٍ مُتتالية، وإذا بعازفِ كمانٍ ضِمنَ المؤدين المُصطَفِّين على المَسرح في كاملِ بهائِهم، يَخرِقُ السَّكتةَ المُقدَّسةَ بنغَمةٍ عَفوية من قَوسِه، وإذا بالقائدِ يَفزع وبالقاعة تضجُّ ضَحكًا.
• • •
أعجبني تَمرٌّ جافٌّ تذوقته مُصادفةً، وسألت عن نوعِه فقيل هو مِن أسوان واسمه السُّكوتي. دهشت قليلًا وتراجعت خطوةً عن إعجابي؛ فلم أكُن يومًا مِن الداعين للسُّكوت، كما لم أعرف أصلًا للتسمِية؛ لكني سُرعان ما تجاوزت المَوقِفَ وابتَعت مِنه وأنا أخاطبُ نفسيَ بأن السُّكوتَ بات سِمةً طاغيةً وسقفًا يُظلِّل الجميعَ، ولا بأس إن سبقنا التمرُ إليها وتسمَّى بها.
• • •
كُل مِن سُكات؛ فِعلُ أمرٍ كَثُر أن يُوَجَّه إلى طفلٍ أو طفلةٍ، والعادة أن يُحاولَ الأطفالُ التمَلُّصَ من تناوُل الطعام؛ فيفرطون في الحديثِ وينطلقون في السؤال؛ وإذ يدرك الكبار حيلتَهم وتعمُّدهم استنزاف الوقتِ دون أن يمَسّوا صحونَهم، يأتي الأمرُ الحاسم الناهي؛ إذ الفمُ مُخصَّصٌ في هذه اللحظاتِ للمَضغِ والابتلاع، بلا مُساوَمة ولا تفاوض.
• • •
يقولُ المأثور إن السَّاكتَ عن الحقِّ شيطانٌ أخرَس، والشاهدُ أن الصَّمتَ في بعضِ المَواقف لا يُعَدُّ مِن الحِياد، ولا يعفي الصَّامتَ مِن مسئوليته، فقولةٌ واحدةٌ تكشِفُ الحقيقةَ، وتُعرِّي الكَّذِبَ وتَفضَح التدليس؛ إنما هي بمنزلةِ انتصارٍ لمَظلوم، وإغاثةٍ لمَلهوف، وانتشالٍ لغريق.
• • •
غنَّى محمد منير ”علِّي صوتك بالغنا“ في فيلم المَصير، فجاءت كلماتُ الشاعرةِ كَوثَر مُصطفى دَعوةً للتمسُّك بحقِّ البَوح وكَسرِ قُضبانِ السُّكوت. ليس الصَّوتُ العالي بدليلٍ دائمٍ على ضَعفِ المَوقف، بل ربما عَكَسَ حالًا من الثورةِ، وأشار إلى أن ثمَّة مَن فاضَ به الكَيلُ ولم يَعد في مقدورِه إسكاتِ حسِّه وعَقله.
• • •
استَمسَك القاعدُ في حَضرةِ سُقراط بصَمتِه، إلى أن استنطقه الفيلسوفُ قائلًا: تكلَّم حتى أراك. الكلامُ مرآةُ صاحبِه والِّلسانُ كاشفٌ لطبعه وخلقه، ولا يفضُلُ القولَ السكوتُ إلا أن يُسهبَ المتكلم حتى يملُّ الآخرون إفراطه.
• • •
في المثلِ الشعبيِّ يكون السُّكوتُ علامةَ رضاء؛ لكن الحالَ قد تتغيَّر ليُصبحَ علامةَ خَجَلٍ أو رَفض، وفي بعض الأحيانِ علامةَ ازدراء. إذا سَكَت امرئ في مَوقفِ انفعالٍ عارم؛ فقد كظمَ غيظَه وآثر التجمُّلَ بالفضيلة، وإذا سَكَتَ عن إهانة مسَّته مسًا؛ فإما قويُّ الشكيمَةِ مُتعال على الصغائر، أو ضعيفُ الهِمَّةِ عاجزٌ عن الرد.
• • •
المَسكوتُ عنه هو أمرٌ يعرفه الناسُ ويتواضعون على تجاهُله. يدركون وجودَه؛ إنما يتوافقون ضِمنًا على إهمالِه وتناسيه، وغالبُ الظنِّ أنهم يخشون تبعاتِ البَوحِ والإفصاح.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات