لم أَمَلّ حتى اللحظة مِن مُتابعة اللافتات المُنتصِبَة فى الطُرق والميادين. فيها ما يعكس حالَ البلد وما يشى بطبيعة العقول القائمة عليه، وفيها أيضا ما يجرح الناس ويستفز بعضهم ويهين البعض الآخر، وما يبهر آخرين ويفرِحهم أو يدفعهم دفعا إلى ارتكاب فِعل ما قد يغيّر واقعهم.
فى اللافتات المُضحِك والمُبكى والباعث على الغضبِ فى آنٍ، وفيها أخطاء اللغة الجِسام وسقطات قواعدِ الإملاء وانهيارات الذوق والذائقة. فيها أيضا تناقُضات لا حصر لها ولا مُنتهى.
«مصر بتصدر للخواجة ملابس بستة مليار جنيه». لافتة أصادفها منذ أسابيع وأضحك. تتكرر الصياغة ولا تزول ضحكتى؛ وإن تحولت الملابس إلى مزروعات مرة ومعادن مرة ومأكولات مرة، كذلك وإن تغيَّر المبلغ المالى المذكور بحسب قيمة البضائع التى تزعم اللافتة تصديرها. مَبعثُ ضحكى لا يتعلق بنوعية البضائع ولا بخانة المليارات التى لا نعرف مدى صدقها وصحتها، ولا نعرف إن كانت سنوية أم شهرية أم أبدية. أضحك مِن كلمة «الخواجة» فما تصورت أن أراها تخرج مِن تابوتها وتعود إلى الحياة فى مطلع القرن الحادى والعشرين.
***
«الخواجة» تعبيرٌ قديمٌ جدا، لم يعُد قيدَ الاستعمال بأى حال، هو الرجل ذو الأصول الأجنبية الذى يعيش فى البلد لفترة طالت أو قصرت، دامت أو انقطعت. أحيانا ما يحذف الناس فى بعض المناطق شعبِيّة الطابع حرفَ «الألف» مِن منتصف الكلمة لينطقونها «خُوجة»؛ تسهيلا وتخفيفا وربما تدليلا.
لا أسمع الكلمة إلا على فترات متباعدة، تأتى فى العادة حين يبدأ فاصلٌ مِن السخرية، وأحيانا التفاخُر، إزاء نُطق طفلٍ مِن أطفال المدارس الأجنبية للغة العربية، يتلعثم ويتعثر وتخرج من فمه حروف مُتكسرة، أو يتحلى بثقة هائلة وهو ينطق المفردات على غير المُتعارَف عليه، خارقا القواعد كلها. يقول له أحد أفراد العائلة ضاحكا: أنت خواجة بقى.
أقرب ظهور مُنتظِم للكلمة يمكننى تذكّره هو عنوان المسلسل الرمضانى: «الخواجة عبدالقادر» الذى عُرِض عام ألفين واثنى عشر، ليسرد مُقتطفات مِن حياة المواطن الانجليزى «هربرت دوبرفيلد»، بدءًا مِن أربعينيات القرن الماضى ووصولا إلى التسعينيات. انتقل المواطن إلى السودان فاعتنق هناك الإسلام واختار عبدالقادر اسما، ثم اتجه شمالا ليستقر فى مصر باسمه الجديد مسبوقا بلقب الخواجة. ربما كان غالبية مَن حظوا باللقب على أرض الواقع هم أصحاب الأصول اليونانية، حين كانت الاسكندرية مدينة كوزموبوليتانية بالدرجة الأولى، فيها عشرات آلاف الأوروبيين.
أقدم مَن يمكننى أن أتذكره حاملا اللقب؛ لا فى حياتنا الحقيقية بل فى مضمار الفن، هو الخواجة «بيجو»؛ الشخصية الشهيرة التى أداها الممثل فؤاد راتب مكونا ثنائيا ضاحكا مع أبو لمعة؛ الشخصية التى أمسك بتلابيبها الممثل محمد أحمد المصرى. هناك أيضا الخواجة «ينّى» فى فيلم «نادوجا» الذى قامت ببطولته تحية كاريوكا عام ألف وتسعمائة وأربعة وأربعين، والخواجة «كيرياكو» الذى تنكر فى شخصيته عادل إمام أو «الكونستابل منصور» فى فيلم خمسة باب.
بقدر ما جذب الخواجة عبدالقادر مشاهدين كُثرَ، وحاز إعجابا وأثار نقاشا، ومثل بوابة لانتشار كلمات الحلاج الصوفية التى زادتها ألحان عمر خيرت بهاء واستنارة، فقد ظهر الخواجة المُطلَق الذى لا اسم له فى لافتات الحكومة، ليمثل بوابة للسخرية والتنكيت ومثارا للتشكيك وندب الحال.
***
نعرف أن صادراتنا فقيرة ووارداتنا كثيرة وإنتاجنا يكاد يكون منعدما، وأن «الخواجة» يجد مبتغاه فى أسواق أخرى تعرف مطلبه وتلتزم بمواصفاته ولا تغش فيها ولا تتهاون، ليس عن أخلاق حميدة وإنما عن تخطيط ووعى. نعرف أن «الخواجة» ليس بيجو ولا كرياكو ولا ينّى، وأن حالنا مفضوحة لا يمكن تجميلها ولا مواراة سوءاتها بلافتة فيها من السذاجة ما يغرق الكرة الأرضية ويفيض.
لا أفهم حتى الآن ما الداعى وراء اختيار الكلمة ونقشها على لافتات كثيرة، مُتعاقبة فى شوارعنا ومياديننا، الإعلان فنّ وصكّ لافتة يُقصَد مِن ورائها جذب انتباه الناس وإيصال رسالة ما، هو كذلك فنّ؛ له دراسة مُتخصِّصَة تستدعى قدرا مِن الثقافة العامة، وإلماما بالبيئة الحاضنة، وإحساسا مرهفا بالمجتمع المستهدف وحاجاته وتطلعاته وفوق هذا وذاك فهما وإدراكا لمزاج الناس وتقديرا لعقولهم، بلا استهانة ولا استخفاف.
إذا كان المقصود هو جذب الانتباه فقد تمّ، أما إذا كان الغرض هو رفع الروح المعنوية وإيهام المتلقى بإحراز تقدم ونهضة، وحفز حماسته عبر إثارة النزعة القومية، فإن هو إلا الفشل الذريع؛ لا العصر عصر الخواجة فى مُقابل ابن البلد، ولا الصياغة المستخرجة مِن حفرياتنا يمكنها أن تخلق واقعا لا يشعر به المواطن فى تفاصيل حياته اليومية.