يتفنن معظم البيوت المصرية في تصميم مخابئ للاحتفاظ فيها بأشياء ليست ثمينة بالضرورة لكن أصحاب البيت يرون أنها جديرة بالحماية والإخفاء عن عيون المتلصصين. والطريف إنني عندما بدأت في كتابة هذا المقال وطافت بذهني كلمتا سندرة وسحّارة، بدا لي أن أبحث عن الأصل اللغوي لهاتين المفردتين فوجدت أنهما مفردتان عربيتان فصيحتان، الأولى بمعنى "مكان على سطح الحجرات في المسكن لحفظ ما لا حاجة إليه في الاستعمال اليومي" ويقال لها أيضًا العلية أو السهوة. والثانية بمعنى "صندوق من الخشب على شكل خاص توضع فيه الأشياء عند تخزينها"، فكانت هذه المعلومة جديدة علىّ وإن تكن شائعة لدى غيري.
علاقتي بالسندرة بدأَت مبكرة واستمرَت أعوامًا طويلة بعد زواجي، فقد كانت أسرتي تحتفظ في بيت المنيل داخل سندرة المطبخ ببرطمانات السمن البلدي، وتلك كانت حكايتها حكاية. كان تحويل الزبد البلدي إلى سمن، أو تسييحه، مسؤولية حصرية لأبي رحمة الله عليه، ربما لأنه كان يحب أداء تلك المهمة فعلًا، وربما لأنه لم يكن يثق في أن يؤدي أحد هذه المهمة بنفس كفاءته، وكان يستعد لليوم الموعود استعدادًا عظيمًا. يشتري ستة برطمانات ضخمة من البلاستيك الأبيض ويقوم بغسلها وتبخيرها ووضْع أعواد القرفة في قعرها، يصحو أبكر من المعتاد في اليوم إياه ويقوم بتسييح الزبد على نار الوابور ثم يروح يقلّبه عددًا لا نهاية له من المرات حتى يصبح غليظ القوام، يتركه ساعات ليبرد تمامًا ثم يفرغه في البرطمانات الستة بحرص شديد. من جانبي لم أكن أحب أبدًا يوم تصنيع السمن البلدي لأن البيت كله كان يقف على قدَم واحدة كما يقولون، وكانت أعصاب والدي تبدو مسنونة كرمح، ولم أكن مقتنعة بأن الأمر يستحق كل هذا الجهد والمعاناة، لكن بمرور الوقت تعرَضت لعملية غسيل مخ تام انتهت بي إلى الاقتناع بأن السمن البلدي ضروري لحياة الإنسان كالماء والهواء، فبدأتُ أراقب عملية نقل أبي برطمانات السمن إلى السندرة، وأتابعه وهو يتسلّق السلم الخشبي وقد أحنى هامته وغاص داخل هذا السرداب الطويل ضعيف الإضاءة ليرّص حصيلته الثمينة الواحد منها بجوار الآخر ويتأكد أن كله تمام قبل أن يغلق بإحكام باب السندرة. كان هذا المكان العجيب يثير فضولي وخوفي أيضًا، ولولا هذا الخوف اللعين لغافَلت أسرتي وغامَرت باعتلاء السلم الخشبي وتقفيت أثر أبي، لكني لم أفعل أبدًا ولا حتى عرِفت ماذا تحوي السندرة غير برطمانات السمن، لكن عندما اختفت أعداد من قصص المكتبة الخضراء ومغامرات أرسين لوبين التي أدمنتها في بداية تعلمّي القراءة، وهذه العروسة المذهلة ذات القبعة المطرزة التي تغمض عينيها وتقول: بابا وماما، كنت أحدّث نفسي بأن أشيائي الحبيبة ذهبَت إلى السندرة. ولقد حافظَ أبي على هذا التقليد السنوي طويلًا، وعندما تزوجنا وصارت لنا بيوتنا الخاصة، أخذ يقسم البرطمانات الستة قسمة الحق على النحو التالي: ثلاثة لي ولأخوّي وثلاثة له ولأمي في بيته المفتوح لنا جميعًا، ثم لم تعد صحته تساعده. معظم البيوت الحديثة لم تعد توجد بها سندرة، فهل هذا يرجع إلى أنه لم تعد هناك برطمانات للسمن البلدي؟ احتمال كبير.
• • •
أما السحّارة التي عادة ما تكون عبارة عن تجويف خشبي داخل الأريكة فلم أصادفها في أي من البيوت التي تنقلنا بينها في القاهرة، لكن أظنها لا تزال موجودة في الكثير من البيوت الأخرى فهي لا تحتاج إلى تسلّق ولا يحزنون، ومع السحّارة كانت لأسرة صديقة قصة طريفة. في شاليه تمتلكه هذه الأسرة بإحدى القرى السياحية كانت توجد أريكة من هذا النوع، وفي سحّارتها كان يتم تخزين كل مستلزمات المصيف من ملابس وأدوات بحر وخلافه. وفي أحد الأعوام حالت ظروف الأسرة دون قضاء الإجازة في المصيف، ففكرَت تفكيرًا اقتصاديًا بأن قرَرَت تأجير الشاليه لعروسين حديثَين تعرّفت عليهما عن طريف سمسار القرية السياحية. فتحت ربّة البيت السحّارة وأخلتها من أدوات المصيف ووضعت مكانها كل ما كانت تخشى عليه من سوء الاستخدام، وجاء ضمن ذلك لسبب غير مفهوم التليفون الأرضي، لكن منطقها كان أن التليفون ليس من أساسيات الشاليه، ثم أن الاعتماد التام على المحمول جعل التليفون الأرضي عمليًا خارج نطاق الخدمة. هكذا أغلقت السيدة الطيبة السحّارة بالمفتاح على أشيائها "الثمينة" واطمأنَت إلى أن أحدًا لن ينتبه إلى أن الأريكة لها سحّارة من الأساس، فالفرش المزركش يغطيها من كل الجوانب. انتهى فصل الصيف وتلاه فصل الخريف وحان ميعاد دفع فاتورة التليفون الأرضي وكانت المفاجأة المذهلة أن الفاتورة هي الأعلى منذ اشترت الأسرة هذا الشاليه. وبالتدقيق وجدَ أفراد الأسرة أن التليفون المحفوظ داخل السحّارة استُخدِم في طلب القاهرة في مكالمات طويلة وأن الزوجين اكتشفا مكانه بمنتهى السهولة فكان هو وسيلتهما اليومية لطمأنة الأهل والأصحاب عليهما في شهر العسل، وهكذا انطبق علي هؤلاء الأصدقاء حرفيًا المثل الذي يقول: سرقوا الصندوق يا محمد!
• • •
بالإضافة إلى هذه المخابئ الثابتة يوجد الكثير من المخابئ المتنقلة حسب الأحوال مثل جيوب الثياب والحقائب، وخلف الأرفف والأجهزة الكهربائية، والفجوات القائمة بين الأدراج، وإصص الزهور الصناعية، وإطارات الصور الفوتوغرافية وغير ذلك كثير. هذه المخابئ مفيدة لأنها تُستَخدَم في التمويه من خلال تغيير مكانها من فترة لأخرى، لكنها تناسب الأشياء صغيرة الحجم، وهي تحتاج إلى ذاكرة جيّدة كي لا يتحوّل إخفاؤها المؤقّت إلى اختفاء دائم، والأهم من ذلك أنها تحتاج إلى التذاكي على جيل الصغار من الأحفاد الذين أطلقت تطبيقات الذكاء الاصطناعي خيالهم بلا مدى فصار كل ما نخفيه عنهم مكشوفًا لهم، وما عادت تجدي معاهم مخابئ منزلية لا ثابتة ولا متحركة، وعندما نقارن القدرات الاستكشافية لهؤلاء العفاريت بقدرات العروسين اللذين اكتشفا أمر السحّارة في المصيف نجد أنه لا مقارنة بين الاثنين من الأصل.